يشهد العالم تغيرا رهيبا وتحولات جذرية على مستوى المفاهيم والأساليب التربوية في شتى مجالات الحياة، علما أن العلاقة بين الإنسان والأشياء من حوله تخضع لتأثير تصوراته منذ مراحل مبكرة من الطفولة، وللأسرة والمدرسة والمدخلات الإعلامية من خلال الوسائط الرقمية الدور الأكبر في رسم تلك التصورات والمدارك، فما الذي يمكننا التنبه إليه؟ وماذا يجب علينا فعله تجاه أبنائنا؟
من بين المجالات التربوية الحساسة ما تعلق بالثقافة المالية وصلة الطفل بالمال قيمة ومعنى، وهنا تخضع الأسر لظروفها ونمط حياتها في نظرتها لهذا الموضوع، باعتبار حجمها، وعاداتها اليومية في اقتناء حاجياتها، ومستواها المادي والمعرفي، وأسلوب عيشها المدني أو الريفي، أما بالنسبة للطفل فتنشئته تتعلق بعمره، وترتيبه بين إخوته، وحتى جنسه في بعض الجزئيات.
ربما قبل الغوص في جوهر القضية علينا استحضار بعض المفاهيم الأساسية كتأثير القدوة عند الطفل في تمرير القيم من والديه إيجابية كانت أم سلبية، واعتبار الأشياء بقيمتها والحاجة وإليها لا بثمنها والقدرة عليها، وكذا فكرة الإغراء التي ترافق إنفاق المال واستهلاكه للكبير قبل الصغير، لذا فإن كان المال رزق فإن حسن تسييره رزق لا يقل أهمية عنه.
ألف الوالدين من خلال الممارسة والوراثة نصح أبنائهم بالاهتمام بدراستهم فقط، دون اعتبار ولا فهم لآليات تحصيل الأموال، ولكنهم لا يخفون معاناتهم وحتى تذمرهم من أبنائهم حينها يطالبونهم بما لا يستطيعون فينكرون عليهم ذلك ويتساءلون عن الخلل، وكيف للطفل أن يفهم الاقتصاد في العيش وعدم الانبهار أو التقليد لجيرانهم إن كان يجهل أبسط أبجديات المال وتحصيله وإنفاقه.
لا يوجد مال دون مقابل، ولا وجود لقصص الثراء المفاجئ دون زمن وجهد وأسباب وتوفيق من الله عز وجل، أما ترك المال في متناول يد الطفل وتلبية مطالبه المادية بدون أية تحديات أو التزامات فهي الكارثة، وهو أسلوب تربوي مخدر يصعب ترويض صاحبه خاصة عندما يستيقظ من غفوته وتنكشف أمامه الحياة بمسؤولياتها وتعقيداتها.
على الأسرة أن تنشئ أبناءها وتربيهم على مبادئ عميقة راسخة في التعامل مع المال، تحرص على أن تغرس فيهم روح الإنفاق في الخير، واعتبار المال وسيلة لا غاية، وكل دينار هو مسؤولية أخلاقية وشرعية سنسأل عن مصدره ومآله، وكيف أنه على الإنسان أن يسعى ليكفي نفسه بما يسد حاجته، ولكن عليه الاجتهاد ما استطاع في سبيل غيره ليرفع عنهم مشقتهم ماديا، وييسر ظروفهم.
عندما ينمو الطفل ذهنيا ونفسيا نموا طبيعيا فإنه بالموازاة مع ذلك سيحتاج لتعلم عدة مهارات في حياته تنأى به عن المزالق والتناقضات، وكم من إنسان ورع تقي متفوق معرفيا سقط واهتز في اختبار المال حينما التقيا وجها لوجه في إحدى محطات الحياة، وكما قيل ممن جرّب وذاق وعرف: امتلاك المال فوق الحاجة يعادل فقدانه، ولا أفضل من التوازن والتناغم.
لماذا علينا أن نهتم بالثقافة المالية للأبناء؟ سؤال قد يطرحه أي أب أو أم لم يألف من قبل هذا الموضوع ربما، إلا أنه يكفي أن ندرك أثر تكوين الطفل منذ الصغر على الصبر والالتزام من خلال الادخار، وعلى الإحسان والإحساس بغيره بالصدقة، وإعداده إعدادا مناسبا للحياة باختباره بخطوات بسيطة توافق عمره، وتؤثر فيه وتنحت في شخصيته دروسا يكتشف سرها عند الكبر.
اصطحاب الأطفال للمحلات التجارية وتلك الحوارات البريئة في الطريق وأثناء الشراء فرصة للتعلم والممارسة، ثم تكليفهم بالشراء بأنفسهم وتدريبهم على الحساب وحسن الاختيار والقرار، ثم في مرحلة الفتوة والشباب يتعلم البيع وطرق اكتساب المال من أبوابها المشروعة، وفي مرحلة مبكرة تغرس فيه الأسرة قيم المسؤولية الاجتماعية والإسهام في بناء الحضارة بكل أبعادها ودوائرها.
للمزيد حول الموضوع ينصح بالاطلاع على كتاب “الثقافة المالية للطفل، دليل الآباء والمعلمات في مرحلة رياض الأطفال” الدكتورة رندا عبد العليم المنير.
- المقالة منشورة في مجلة إسهام الصادرة عن مركب البيان، الحميز، الجزائر العاصمة