الاضطرابات متواصلة في أرجاء العالم وليست أمرا جديدا مستحدثا، إلا أن المتغير في المعادلة هو أطراف النزاع، ففي الأمس دولة والآن دولة أخرى، وسابقا شعب واليوم شعب آخر، فيما يبقى الثابت في المشهد سلسلة الأسباب، وتكرار نفس التجارب مع انتظار نتائج مغايرة وترقب آثار ميدانية مختلفة عما سبق.

بداية أقرّ بكل صدق أني لست بالخبير السياسي لأفصل في عمق القضايا الراهنة سواء في مشارق الأرض ومغاربها، ما نعلم وما لا نعلم، وما نعلم إلا قليل، بل إن المسألة هنا أصلا لا تحتاج لخبرة سياسية فقط، فحتى السياسي المنفصل عن واقعه فكريا -وما أكثرهم- يرى للقضايا بمنظاره الخاص المحدود جدا، فيغفل السنن الكونية ويفترض حلولا بعيدة عن الصواب قريبة للمصالح، إلا ما شذ ممن بقي فيهم ضمير حي وفطنة متقدة، مع أن أثرهم للأسف ضئيل جدا وصوتهم خافت لا يكاد يسمع.

لماذا الحال هكذا؟ لأن شروط السيطرة حاليا في كفة الظالم المعتدي، وميزان القوى راجح لصاحب الفكرة المدمرة لكن بآليات فعالة، فمقاليد مراكز القرار بيد من؟ ومفاتيح مواطن التحكم ملك من؟ ولعل أسوأ دور يظهر خبثه جليا حاليا هو الإعلام، فلم يعد الإنسان محور اهتمامه ونقطة تركيزه، بل صار جزءا يسيرا من مشهد خريطة المصالح الاقتصادية خاصة، وإن تطلّب الأمر إبعاده عن طريق تحقيق الهدف المنشود فليكن، وهنا طريقة الإبعاد لا تهم مادام المطلب واضح.

أركز على الإعلام بصفته نقطة الانطلاق وكذا محطة الوصول، فبه تجيّش أفكار الجماهير بأعدادها التي لم تعد تهُم كثيرا، وبالإعلام ترسم المسارات المعدّة سلفا في العلب السوداء المظلمة، وتبيّن للمتلقّي المسكين على أنها الاختيارات الوحيدة، فإما جنة وإما نار، كما بالإعلام أيضا يشيطن الخصم ليغدو عدوا لذوذا، وإن كان صديق الأمس، أو أقرب الأقربين لعقود، وبالإعلام للأسف تلمّع صورة الزعيم ليستقبل الركوع ممن لا يعيش إلا بنفَس الخضوع، هو الإعلام الفاسد حاليا يفعلها أمام أعيننا وحتى تحت رايات التهليل والتصفيق أحيانا، وحتى الإعجاب والإكبار.

لم يسلم من نموذج الإعلام المهيمن والمتداول حاليا من كنا نظن فيهم الحكمة والعلم، ولم يتخلص من تبعيته من لازلنا نثق فيهم لحد الآن، حتّى سلّمنا بالواقع وأسلمنا أنفسنا إليه تجرنا خيبتنا وتعلونا أمارات الذل والهوان، في كل مرة ارتضيناه قائدا وملهما لنا، هو أسلوب الإعلام الفاسد هكذا لم نوليه قدرا كافيا للتعامل معه بذكاء، فصار لنا ملازما يحقننا بجرعاته الفاسدة، فيسبب لنا أوراما سرطانية وأمراضا عقلية.

هو إعلام لم يفصح عن سمومه كلها إلا لما تأكد من تبعيه الناس له، بعدما أذاقهم من بعض ملذاته الزائفة، فهذا مسلسل درامي مثير يمرر به ما شاء من أفكار وذهنيات، وذلك تقرير خاص ولأول مرة، وتلك حلقة نقاش ساخنة يتبارى فيها خصمان بأيديهما قبل لسانهما ليدخلا بعدها وأتباعهما في حلبة صراع محتدمة، وهذه أخبار عاجلة بطعم الفتنة لم ترق لدرجة اليقين بعد، ولو كان الضحية بعدها إنسان أو حتى شعب بريء، ولو اشتعلت نار في بلد ما فما دامت مستهدفة فإن أي وسيلة ستبررها الغاية.

بكل هذا الطعم صار الإنسان مقيدا أمام جهاز التلفاز يتلقى بلسانه قبل عقله، فيتأثر ويغضب، يشمت ويسخر، يفرح ويحزن، لا بإرادة منه إنما وفق هوى ومزاج تلك الوسيلة الإعلامية المفتنة، بهذا وبعدما تحكمت في نواصي الجماهير صارت هي سمعهم التي يسمعون بها، وهي لسانهم الذي يتحدثون به، وهي يدهم التي يبطشون بها، وهي أرجلهم التي يمشون بها، أين عقولهم؟ محفوظة في ظروف صحية عالية، وفي مكان خال من الرطوبة ومعتدل الحرارة.

أما ميدانيا فلم يعد قرار مصير الدول بصناديق الانتخابات المزعومة، ولا يتحلى المواطن بحريته المزيفة من محض إرادته وإدارته، إنما يشحن قبل ذلك كالمنبه، حتى إذا بلغ وقته المحدد بدأ في الرنين، وليست أية رنّة إنما كما حُفّظها تماما، وكما لُقّنها حرفيا، ليس هذا ما نرجوه طبعا، لكنه واقع الحال، فيما يصطلح عليه بفن الممكن (السياسة)، ففُتحت بذلك أبواب ليس من السهل إغلاقها، واختيرت سبل ليس بسيطا التعديل أو التحكم في مساراتها.

ما يحدث حاليا في الوطن العربي المتأزّم بحق، لا يمكن أن يرى الخلاص دون بديل للساحة الإعلامية من الدخلاء وبائعي الذمم في مصر خصوصا، ممن هدفهم التهييج والتأزيم قبل التهدئة والسعي للحلول، ممن يتكلم أكثر مما يعمل، يبكي أمام الكاميرا ويضحك خلفها مهملا لمشاعر الإنسانية وأخلاقها، يدّعي ويكذب، يتوعّد جيوشا وأنظمة ولم يأمن من نفسه أجرة يومه ومنصبه في تلك القناة المغمورة، لا يمكن وصفهم بالأطفال فالأطفال أصدق منهم، ولا بالمجانين فالمجانين أنزه وأخلص، يعجز الفكر حقا عن تصنيفهم!

رجائي أن يتنبه القادة والعلماء ومن بيدهم أمر المجتمعات والجماعات لهذه المأزق قبل غيرهم من عامة الناس، فالإعلام وسيلة خطيرة جدا في ممارستها قبل استهلاكها، ولكن من الواجب ممارستها دون أي تهاون أو تردد، فالمسألة ليست في التفكير في جدواها، إنما المرحلة مرحلة تموضع وتموقع، خوض للغمار بزاد كاف، واقتحام للعقبة بعدّة وقوة وعزم، وإلا فإننا نبقى ونظل كالقشة في مهب الريح، لا نعرف بداية من نهاية، وإنها لعمري النهاية!