لا زال التدوين الإلكتروني محل اهتمام وبحث كبيرين لما يحمله من تفاصيل لها عميق الأثر في الحياة، فقوة الكلمات حينما تنفذ لعقل القارئ تنتج منه سلوكا بمحض إرادته تارة وبغيرها تارة أخرى، ولكن هل التدوين العربي يدخل في دائرة تلك القوة وذاك الأثر؟

التدوين كما نعلم بدأ أولا بلغات غير العربية، ثم التحق الكتّاب العرب بالركب وصارت لهم كلمتهم ووزنهم، إلا أن الملاحظ أن الأشكال تتعدد، وحتى المغزى والهدف يتنوع من لغة لأخرى ومن ثقافة لثقافة مغايرة، فقد أجريت مسحا خفيفا على عينة من المدونات باختلاف توجهاتها وولغاتها وتركيبيتها فخلصت لجملة نتائج منها ماهو منطقي طبيعي ومنها ما لا يزال يطرح علامات استفهام على الباحثين الغوص فيها وتفكيك الظاهرة وتبسبطها أكثر بعد استخلاص النتائج.

فمثلا في جولة استطلاعية لبعض المدونات التي يكتب أصحابها باللغة الانجليزية وجدت هناك عفوية تامة تميزها دون تكلف في طرح المواضيع وبث الأفكار وعرض الآراء، وهذا راجع لطبيعة الحياة التي يعيشها الكاتب إذ تظهره إنسانا (ذكرا كان أم أنثى) سعيدا متفائلا مرحا، ولو كان الموضوع شكوى يبثها أو فكرة يرفضها فبأسلوب تهكمي لبق يخفف على القارئ صعوبة الموضوع وثقله، ويوحي له بعدة مؤشرات وانطباعات.

على خلاف ذلك في المدونات العربية التي وجدتها -في غالبيتها- مكانا للحزن أو الانتقام أو الشكوى أو السلبية بما يسلّم لقارئها على أن الظروف صعبة لا أمل فيها، والحياة مستحيلة في تلك المنطقة إن لم أقل الكوكب كله، فهذه خواطر لا تخلو من الألم والحزن، وتلك مقالات رأي لا تنعدم فيها آثار الغضب الوعيد، وتلك مراجعات -مقالة بعد استعمال منتج ما- لا تسلم من القدح بأسلوب فظ بداعي الصراحة وبذريعة الشجاعة!

لعل أولى التفسيرات تصب في خانة نقل الواقع كما هو، ووصف الحال كما وقع، فالكاتب ابن بيئته، وانعكاسات تربيته ونشأته لا محال تظهر جلية، لكن هل هذا يبرر أن تكون الكتابة كئيبة والأجواء موحشة في أغلب المدونات العربية؟ وهل غيّر هذا الواقع من كون أصل المدون كمؤثر ليغدو متأثرا؟

زيادة على تناول الإعلام الكلاسيكي العربي لقضايا التدوين إذ يسلط الضوء كثيرا على الجانب السياسي، فيؤثر سلبا على المستهلك -والمدونون منهم-، فيقومون بردة فعلهم كما جاءت ويفجرون طاقاتهم في صفحاتهم، حتى ساد مفهوم خاطئ جملة وتفصيلا يقضي بكون المدون معارض سياسي دائما، أو ما يسمى بالناشط الحقوقي مع ما تحمل المصطلحات من ليّ وتكلّف وجرّ لمعاني محددة سلفا، فيكون تحت المجهر وفي طليعة المستهدفين حسب زعم الأغلبية، أي على المدون أن يكوّن شبكة أعداء وينطلق فيسمى مدونا!!

بيد أن التدوين في أصله هو الكتابة التي تتميز باللمسة الشخصية البحتة، فلك اسم ومساحة على شبكة الإنترنت اكتب فيها ما تراه حولك، موهبتك، آمالك، وحتى آلامك لكن بأسلوب المتأمل الذي يريد حلولا ليتقدم ويتطور لا الشاكي الباكي الذي ينتظر المواساة والتضامن.

لست متشائما بواقع تدويني عربي سلبي إنما هي الواقعية التي أسعى من وراء هذه الكتابات تغييرها ما استطعت، هناك محاولات للخروج عن الخط المرسوم للمدون السياسي -دون حنكة- المعارض -دائما وأبدا- الذي لا يرى في الوجود شيئا جميلا، إلى كاتب يبتغي من أفكاره بث أمل وروح إيجابية تجعله مثالا وقدوة لمن يريد النجاح والوصول لأبعد المستويات، لا مرآة سوداء لم ترى النور لتعكسه، أم رأته فرمت عليه رداءها وقتلته.

لا أريد أن أملي على المدونين ما يكتبون فهم أدرى بأنفسهم مني، لكن أوصيهم بفتح آفاقهم والاطلاع على تجارب أخرى غير ما ألفوا فسيجدون ما لم يكن في تصورهم من قبل، فأين لنا من مدونات يكتب فيها طالب العلم عن تجربته البحثية لا عن معاناته من ظروف الجامعة لأجل التذمر فقط، ومن مدونة لطبيب ينشر فيها قصصه ونصائحه ليستفيد منها المهتمون بالتخصص وكل محتاج لنصحه، ونفس الأمر للفلاح والتاجر والفنان و حتى ربة البيت والمكلفة برعاية الأيتام أو الأطفال في دور الحضانة والروضة…

ما ذكرت سابقا موجود في التدوين العربي إلا أنه غير بارز للسطح بفعل سطوة أمثلة أخرى تعتمد الإثارة بأسلوب الوجبات السريعة على حساب الجودة والعمق وبمساعدة وتواطؤ من بعض الجهات التي تدعم ذلك الشكل منها كمؤسسات الإعلام وبعض المسابقات التي لا تبنى على أرضية صلبة موثوقة، فعلا لو امتلأت ساحة التدوين العربي بمن يكتب ليؤثر فستكون هنالك انعكاسات إيجابية في أرض الواقع، أما لو استمر الحال على ما هو عليه فالمهمة مهمة أجيال قادمة إن وجدت من يوجهها وينصحها بأسلوب غير ما هو مألوف حاليا طبعا، فلتكتب للمدى البعيد ولا تكون كتاباتك آنية سرعان ما تموت بمرور الأيام…