لا شك أن كل من له علاقة بالتدوين، سواء كان كاتبا أو قارئا ومتتبعا لاحظ تراجع تلك الهالة على مجال التدوين، هذا من جهة، فيما نجد هناك من جهة أخرى مدونات عريقة متجذرة تعتبر كمراجع هامة لقرائها والمدونين أنفسهم تنير لهم الطريق وتيسر لهم السبل لاقتحام الكتابة ومشاركة تخصصاتهم واهتماماتهم واكتشاف جديدها.

ربما نسلّم أن عدد المدوّنات في تراجع عددا نعم، لكن من ناحية النوع مازلنا نستبشر خيرا، ونعتقد بتطور عجلة التدوين وتقدّمها قدما للأحسن، وتفسير هذا لا يعدو أن يكون ظاهرة طبيعية في كل مجال من مجالات الحياة، فربما هناك اختلافات فرعية أما الجوهر فإنه هو لا يتغير، أصل الحكاية أن كل جديد في بدايات ظهوره لا يأخذ نسقا معينا موحدا، يل يكون عرضة للإعجاب والاكتشاف والتجربة ممن يهوى اكتشاف الجديد، ثم يتّخذ طريقه الطبيعي بعد مدة، وهذا ما وقع للتدوين، ففي بدايات الأمر كل يوم تنشئ مئات المدونات، ولكن قليل من يحاول إحصاء التي يتخلى عنها أصحابها كل مرة متّخذين وجهة جديدة ليكتشفوها أيضا.

أولا كانت غرف الدردشة مكتظة، ثم المنتديات، ثم المدونات، ثم المواقع الاجتماعية حيث جذبت إليها الكثير، فماذا وقع فيما سبق ذكره؟ لم يبق فيه إلا من آمن بالفكرة حقا، واقتنع بها لسبب أو لآخر، لذا فيمكن اعتبار ميدان التدوين حاليا يسع المهتمّين به والمقتنعين فقط، فيما انجرّ من كان فيه مجربا فقط، أو طبيعته تتبع الموضات أينما كانت، إلى الفيسبوك والتويتر وغيرها.

من هنا يمكن تمثيل بداية حقبة التدوين بتلك الضجة، كقرية أصابها فيضان هائج وحين خمدت أمواجه وتركت آثارها السلبية والإيجابية! يأتي العقلاء من السكان وذوو القرار لترتيب وبناء وترميم ما يمكن استدراكه والتخلّص من ما يستدعي ذلك، ربما نحن في هذه المرحلة، فمن الأصوات من تنادي أن التدوين العربي في خطر؟ وأخرى تعترف بمراهقته قلة خبرته؟ وذلك يقول إننا بعيدون عن معنى التدوين الحق الذي ينتهجه الغرب ومن أوجده أول مرة! هذه انطباعات واجتهادات لها مدلولاتها وانطلاقاتها، كما لا يمكن أن نظلّ هكذا في حال البكاء والعويل، بل البناء وإرساء الأسس من ذوي الخبرة حاليا ضرورة حتمية، وهم موجودون بآثارهم ومشاريعهم، كل ما علينا فعله هو الالتفاف حولهم والتعاون معهم.

توسيع وتضييق رقعة التدوين مهمتنا نحن المدوّنين، فالقرار قرارنا والأمر بيدنا، ودليلي على ذلك ما سأذكره من خلال هذا:

  • التعامل مع القارئ وكأنه خبير تدوين، علينا الاعتراف أن المجال جديد في محيطنا ومجتمعاتنا، لذا علينا الصبر في إقناع الناس به، هذا إن كان إقناعهم مستعجلا، ففي رأيي يمكنك الكتابة بهدوء ويوما بعد يوم سيقتنع بك من يقتنع ويقرأ لك من يقرأ، فالضجيج لا ينفع ويزول بزوال صوته دون أثره.
  • اعتداد بعض المدونين بآرائهم لمستوى مبالغ فيه، مما يجعلهم ينفّرون قرّاءهم الذين لا يحسّون بما يجعلهم يعودون مرة أخرى، حتى يعتقد ذلك القارئ أن التدوين كله هكذا، للإشارة فهذا المرض ابتليت به المنتديات سابقا، وانتقدها من انتقدها لكن الحال نفسه يتكرر هنا.
  • مسألة الانتظام في الكتابة، فالتدوين مسؤولية وتكليف لا مرتبة شرف، فإن فتحت مدونة وقلت للناس إنك كاتب بها، على الأقل كن على قدر ما قلت، والتزم ببرنامج معين للكتابة لا أقول لك تعامل باليوم ولا بالأسبوع ولا بالشهر، ولا أفرض عليك عدد مرات نشرك لمواضيعك، لكنك إن كتبت حرفا في سيرتك الذاتية، أو عاهدت قارءك أول يوم بشيء، فالزمه والتزم به.
  • التخويف والتهويل في قضايا الحريات والاعتقالات، حتى يخيّل إليّ أن التدوين هو محاربة الحكومة، وكشف الأسرار الممنوعة، التدوين أكبر من ذلك وأوسع بكثير، اكتب عن مهاراتك التقنية، تجاربك في الحياة، نصائح لإخوانك طلبة العلم، لحظاتك الجميلة وعاداتك وتقاليدك العريقة في بلدتك وقريتك، هذا غيض من فيض، فلا تصوروا لنا المدونين مجموعة خارجين عن القانون مصيرهم المعتقلات والسجون فقط!.
  • المنافسة غير الشريفة بين المدونين أحيانا، وهذا والحمد لله قليل غير ظاهر، ولكن أخشى أن تتفاقم الأمور يوما بعد يوم، فالأجدر أن نتعاون ونتكاثف ونتحد في سبيل قضايانا العامة، ونعتني بما يجمعنا ونتجاهل ما يفرقنا، هذه رسالة لكل مدوّن أن يحسّن علاقاته بالآخرين، ويحترم وجهات النظر، ولا يكتب ما يكتب إلا وهو متأكد مما يقول، كما ليس معنى التدوين أن نكتب وفقط، لكن لمن؟ ولماذا؟ وكيف؟ فلكل مقام مقال.

أرى والله أعلم أن القليل من المدونات بجودة عالية أحسن من كثير ربما تكون غثاء كغثاء السيل! لذا فلا نقلق أنفسنا باندثار التدوين، فهذا أمر مستبعد جدا على المدى المتوسط إن لم أقل البعيد، ولكن إن كان هناك تطوّر جديد يمكنه إفادة التدوين فلا يجب إنكاره والتجمد في مفاهيم كلاسيكية، بل نحاول التكيف مع الجديد كل مرة، كما يحدث مع التدوين القصير في الشبكات الاجتماعية، فالأمس كان الإعلام محصورا في بعض المعاني، واليوم زاحمه التدوين تحت مسمى الإعلام الجديد، وغدا أمور أخرى ومستجدات جديدة، المهم هنا المقصد وليس الوسيلة، فالوسائل في تغيّر وتطوّر سريع جدا، ولا مجال للانكماش والانحسار.

سؤالي في الأخير! هل علينا الاهتمام بنشر التدوين كثقافة للكتابة والممارسة أولا؟ أم نوجّه اهتماما أكبر لتوسيع دائرة التأثير والقرّاء والمتتبّعين؟

هذه المدونة كتبتها مشاركة في نشاط “لندوّن” الذي أطلقه موقع (مدونون مسلمون)، لمناقشة قضية تراجع التدوين العربي مقارنة بما سبق، فأفيدونا بتفاعلكم حول الموضوع وأنيرونا بما لديكم من رأي ووجهة نظر.