لا أذكر أول مرة حركت فيها قلمي لأخط الكلمات، ولكن أستحضر تلك اللحظات جيدا وأنا في مرحلة دراسية مبكرة أسيح بخيالي خارج الفصل بل أكثر من ذلك وأبعد فقد كنت أسافر وأهيم بعيدا وفي يدي قلمي أرسم به حروفا في زوايا دفاتري أزخرفها وأتفنن فيها بينما معلمي مستغرق في درس من دروسه.
لا زلت أحتفظ إلى اليوم بتلك الدفاتر، كونها مرآة لأفكاري ذات يوم، ففي كل عبارة منها وفي كل فقرة أكتبها حينها سبب للنزول، كانت الكتابة حينها حقا ملاذي من ملل بعض المواد الدراسية لا لخلل فيها وإنما لقصور من الأستاذ المكلف بتحبيبها لنا، أو لمسحة من التمرد كانت تكتسي أيامنا ذلك العمر رغم إتقان المعلم وإحسانه.
بعدها أخذ التدوين شكلا آخر ومنهجا متفردا، فقد منحت له الصبغة الإلكترونية أبعادا مترامية، ومدت له نفسا جديدا، فلم نعد نكتب لنقرأ ما كتبنا كما كنا، ولم نعد نكتب لنتلو باحتشام ما كتبنا في محفل من المحافل المدرسية كخطبة لا يستمتع بأدائها غالبا إلا قارئها وربما ذلك المعلم الذي لقنه مبادئ الكتابة وفن الإلقاء.
التدوين الإلكتروني فتح باب المنافسة ورفع سقف المحفزات لأعلى مستوياته، فتجربة أن يكتب شاب حرفا في غرفته ليطلع عليه قارئ من أقصى العالم بعد لحظات من نشره تجربة لها نكهتها الخاصة جدا، فهي تشعره رغم حداثة خبرته وقلة حيلته وكأنه كاتب عالمي يسير بإنجازاته فوق بساط أحمر.
أما عن مرحلة الفيسبوك وما أزاحه من قداسة للكلمة والفكرة فذلك منعرج آخر جعل المنافسة أقوى وأسهم في زيادة أروقة وممرات مضمار التسابق نحو عقل القارئ وقلبه، مرحلة كرست مفهوم ثورة الكتابة، حتى صار القارئ ملزما بالبحث عن العمق أكثر من أي معيار آخر، فالتدوين حينها صار مبتذلا عند من ابتذله، وبقي مقدسا عند من لازال يتحفظ ويراقب ما يكتب ترددا أو احتراما واعتبارا لجهد القارئ ووقته الثمين.
في نفس الوقت برز شكل آخر بثوب جديد فأخذ روح الموضة أكثر، واتخذ له مكانة هامة بين المنافسين، وهنا أتحدث عن منصات التدوين الجماعي، فقد فتحت آفاقا ومنحت فرصا للتركيز على المحتوى دون غيره من الإشكالات التقنية، وهي تجربة رائدة أعادت التوازن وكان القارئ فيها المستفيد الأول أكثر من المدون نفسه ربما.
التدوين كما أتصوره هي رسالة وأمانة، وقوده القراءة وسنده التأمل، فكلما كان الكاتب حي الضمير متقد البديهة انسابت كلماته تحمل فكره وأفكاره، لتجد من يتلقاها بعقل متفتح ليزيد عليها بإثرائه فتأخذ طريقها نحو الكمال، وكلما كان التداول جادا كانت النتيجة قطعة نادرة يتشرف كل قارئ بها.
التدوين قصة لا بداية لها، فهي استمرار وتراكم، وكم من عبارة مرسومة في حائط مر بها كاتب فقدحت في ذهنه شرارة مقالة كاملة، وكم من حركة عين أو شبه كلمة نطقها صبي صغير فتحت أفق فكرة فتفنن الكاتب في رص حروفها وخط معانيها..
وعن النهاية فلا أراها قريبة، لأن العالم اليوم في تغير متسارع رهيب، فيا ترى ما هي الحلقات القادمة في هذا المسلسل الممتع؟
- مقالة منشورة في موقع نير للعلوم (Near Science)