التدوين مجال للتعبير الحر عن الآراء والمواقف، وفرصة للاحتكاك بين الكاتب وقرّائه، ومناسبة للتكوين والتوسع في مجالات عدة، هو منفذ ومتنفس من القيود والنظم التي تفرضها المؤسسات الإعلامية في سبيل سياستها وأهدافها الجماعية المشروعة.

المدونون صنفان، أولهما من اختار الحرية وضحى بالعديد من النظم والمقاييس التي تميّز العمل الصحفي بمفهومه المعروف، ورفض أن يلحق أو يدمج التدوين بالصحافة الكلاسيكية، ومن ذهب إلى هذا الرأي له حججه وبراهينه، كما أن هناك الطرف الثاني الذي قرن التدوين بقواعد وضوابط ألزم بها نفسه ودعا غيره إليها، تلك القواعد لم تنقص من قيمة مدونته ولم تخرجه عن نطاق التدوين كذلك، وكلا الفريقين له تأثيره ووزنه دون إقصاء طرف أو آخر.

كلا الطرفين يؤديان دورهما ويسعيان لتحقيق أهدافهما وتوصيل صوتهما وتبليغه، إلا أن هناك قواعد لا يمكن تخطّيها ولا التنازل عنها بداعي الحرية، كونها تؤدي دورا كبيرا، وفي حال تجاوزها يفقد المدوّن مصداقيته ويضرّ بكتاباته أكثر مما ينفع، مثل احترام القواعد اللغوية وبدء المقال بعنوان وختمه بخاتمة، والتزام ذكر المصادر…، هذه أمثلة فقط وتوجد غيرها ربما لا تبدو للعيان أول مرة، وتكتشف بالتخصص أكثر والممارسة.

سألقي الضوء هذه المرة على ظاهرة أراها سلبية تخص التدوينات الشخصية والتي يعبر عنها أصحابها بالتدوين الحر، ليعالج قضية ما، أو يتحدث عن واقعة أو ظاهرة شغلته في محيطه وأثارت انتباهه وحفيظته.

يبدأ الكاتب مقالته بعنوان مثير يعبّر عن صرخة وتدمّر، ثم يأتي مع مراحل مقالته بوصف ذلك الحال، حتى إذا انتهيت من القراءة وجدت نفسك منقبضا مشفقا بل وحتى حاقدا ربما أو ساعيا للانتقام، هنا الكاتب يسعى لجمع العديد من الأدلة كما يصوّر المشاهد سوداوية قاتمة، تصلح لأن تكون فيلما متكامل الجوانب محترف الإخراج.

الأمر السلبي هنا هو تعميم تلك الظاهرة والمشكلة على نطاق أوسع مما وجدت فيه، وإعطائها إطارا أكبر مما يجب، وقد قيل: كل تعميم خطأ وحتى هذا التعميم، فالمدون الجزائري مثلا لما يتحدث عن ظاهرة في قريته ومدينته يعمّمها ويخيل للقارئ أنها ظاهرة وطنية شاملة، رغم تعدد اللغات واللهجات، والأعراق والمناطق، وكذلك بالنسبة للمغربي والسعودي والإماراتي وغيرهم، ويمكن أيضا إسقاط الأمر على المستوى العربي والإسلامي والعالمي.

يشتكي بعض المدوّنين من عدم الاعتراف بكتاباتهم ولا اعتمادها مصادر، ولكن تكرر هذه الظواهر السلبية يجعل منا نحن المدونين أنفسنا نعيد النظر في الأمر، وكيف يُعترف بها وتعتمد مصدرا يفتقد للمصداقية والدقة؟ ويغالط في حجم الإشكالات، ويبالغ فيها دون مبرر ولا ميزان علمي واضح؟

قال قائل: علينا بتضخيم الأمر وتعميمه كي نسمع صوتنا ونوصله، لا يمكن تحقيق أي تقدم بهذه الطريقة، كما أن التدوين ليس مجالا للبكاء والشكوى بقدر ما هو أداة للبناء والتطوير والإفادة، فعندما نأتي لمعالجة أية قضية -وهذا يتطلب شروطا- فعلينا أولا جمع المعلومات الكافية حولها، ثم مراجعتها مرارا، وتنقيتها مما يشوبها، مع وضعها في إطارها المناسب مكانا وزمانا، وإرفاق المشكل بالحل والبديل، ثم إن وجدنا أنها أهلا للنشر، قمنا بذلك، فالعبرة هنا ليست بالكثرة كما هي بالجودة وحسن التصرف مع القضية.

نداء إلى كل من يكتب وينشر حول انتمائه أوفكره أواعتقاده أوميوله أو… إلخ، أن يتحقّق أولا، ثم يبين للقارئ من خلال ما يكتب سبب تلك الكتابة أصلا، فالمتحدث مثلا عن ظواهر سلبية في مجتمعه عليه أن يحصرها في مجتمعه ولا يتحدث باسم الآخرين، وكذلك بالنسبة للدولة ككل، فكم يؤلمني أن أجد جزائريا يكتب باسمي وباسمك دون توكيل، ويقول: كل الجزائريين يعتقدون كذا وكذا… أو يرون كذا وكذا…، من قال أني كذلك؟ وأرى ذلك وأعتقد؟

يا أخي ويا أختي الكتابة في الأنترنت موجهة لكل العالم، لذا علينا اختيار الكلمات والأفكار، ووزنها قبل طرحها، ولنكن على علم أن الكثير من الظواهر السلبية والإيجابية الموجودة في الجزائر توجد في سوريا ولبنان وقطر وعمان ومصر والسودان إلا أن الأمر بنسب متفاوتة طبعا، فعندما نكتب عن إحداها لا نظهر أننا الوحيدين في العالم من نعيش تلك الحال، وكما قلت سواء إيجابيا أو سلبيا، فالأمر سواء.

التعميم الخاطئ لا يضيف للموضوع بل ينقص منه، وينفر قارئه ويقلل من قيمة كاتبه، فلنتحرّ الدقة قدر المستطاع، ولنعلم أن لكل قاعدة استثناء، والخير والشر في كل مكان وزمان، ولا أقول لك أخي الكاتب: كن كالنحلة تجوب الحقول ولا تقع عينها إلا على الزهور، ولا تكن كالذبابة لا ترى إلا ما هو مقزز، ولكن إن بدأت مقالتك كالذبابة فحاول ألا تختمها إلا وأنت كالنحلة، وهذا أفضل التصرف في رأيي والله أعلم.