كثرة الحديث عن الفكر والاهتمام بقضايا الساعة لا يرقى بنا بالضرورة لمصاف المفكّرين، هذا أمر مؤكد ولا مجال للحديث فيه كثيرا، إنما هل بات من الواجب على كل منا أن يحيط بحد أدنى من الآليات المساعدة على التحليل بشكل أقرب للصواب؟ خاصة إذا سلّمنا بكون الجميع قد صار محللا، مقررا، آمرا ناهيا.

هناك من أمور الحياة ما لا يدرس في فصول المدارس، ولا ينهل من سنوات التعليم الابتدائية ولا الأساسية، ولا حتى الجامعية، هذا ما نسمعه مرارا وفي أكثر من موضوع ومجال في حياتنا العامة اليومية، فالخبرة والتجربة وعامل الزمن كلها أمور تؤثر في تكويننا العقلي والعاطفي كثيرا، فنسعى على ضوئها في تفسير الظواهر حولنا، بشكل أو بآخر، فهناك ما يمكن أن ينتظر تجربتنا لنتعلّمه، وهناك ما لا يسع فيه الانتظار.

تحليل قضايا الساعة بات حاليا من الموضة أكثر منه لهدف في إصلاح الحال، حيث نؤيد أفكارا ونرفض غيرها بالمزاج، ونشجع مبادرات ونعرقل أخرى بانتقائية لا تستند لأي أساس، وإن استندت فلوهم زائف، حتى غدت أغلب نقاشاتنا تنتهي بذم الزمن ونعته بكل الأوصاف، كما للناس من حولنا نصيب أيضا، ولتربتنا ومحيطنا، حتى يخيل إلينا بعد كل هذا، مدى براءتنا من ما يقع، وعدم مسؤوليتنا بالأساس، فلكأننا ننتظر أول فرصة لنجد المخلّص ونشكي له كل الحال عله يشفق علينا ويحسّن من وضعنا، وهيهات أن يأتي…!

هذا نوع منا في تحليل الأمور، وهناك صنف آخر يدعي فهم كل شيء بدقة، وهو في الحقيقة لا يعي منها ولو جزءا، ولا يدرك مدى الجهل الذي يقبع فيه، وهو فرح بما لديه بكل أسف، ولو جئت تحاوره وجدته في يقين غريب بما اقتنع به، حدّثه عن أي شيء ولا تحدثه عن تلك القضية! فلا هذا ولا ذاك، إنما هناك حلول وسط، وثمت مسالك علينا انتهاجها إن أردنا فعلا نتائج أفضل.

أولا علينا أن نؤكد أهمية فهم ما يدور حولنا، إن رأينا لواقع حالنا المتخلف في كل المجالات، فلا نقاش في هذا، ومنه ننطلق نحو التفاعل مع القضايا على بيّنة، فلا شيء سيتغير لصالحنا دون تحرك في الاتجاه الصحيح، ولا مجال للغفلة عن ما يجري حولنا وكأنه لا يوجد ما يعنينا، بل لماذا كل هذا الاهتمام أصلا؟ أليس هناك من سيقوم بذلك؟ دعها فإنها مأمورة… وإلى غير ذلك من التبريرات ومقدمات الفشل وجرعات التيئيس.

إصلاح الأوضاع مهمة كل منا، وإدراكها مسؤولية الجميع كل من زاويته، ووفق قدراته، إذ لا تُعرف القدرات ولا تُميّز إلا بعد المحاولة، واتخاذ كل ما في الوسع والإمكان، ومن جملة هذه الخطوات والمبادرات العودة للكتاب، مطالعة وفهما، تعمّقا وتحليلا، فهو مركز كل نمو معرفي، ونقطة انطلاق لعالم الفعل والتمكين.

الكتاب كنز يمكن فك شفراته بصفة فردية لمن يقوى عليها، ولكن الأمر أيسر وأفيد حينما يجتمع عليه أكثر من واحد، فحينها تلين المفاهيم المستعصية، وتدنو المعاني البعيدة، تعمّ البركة الجميع، وتشعّ في أذهانهم بشارات الخير، فيبطلقوا مبشرين ومنذرين، بروح الفكر الحضاري، وذهنية التمكين بتيسير وتبسيط.

التكوين الفكري في مراحله الأولى يكاد يكون فرض عين لكل إنسان حمل على عاتقه مهمّة في سلم المجتمع مهما كان تخصصه ومجاله، وفي درجاته المتقدمة أمرا يهمّ النخبة القائدة، إذ هو ليس مقصورا بين جدران المعاهد والجامعات، وليس مقتصرا على فئة عمرية محددة، إنما هي مهمّة كل من تحرّكت في قلبه الأسئلة، وتزاحمت في عقله الأفكار، فلم يدري أي منها الخطأ، وفي أي ركن هو الصواب.

لنبدأ أول خطوة، وننهل من معين الكتب، في لقاءات ودية وجماعات أخوية، لا تحكمنا مصالح دنيوية ضيقة، ولا تحدنا حواجز وهمية سرابية، نختار ما أهمّنا فعلا، ننتقي له مصدرا دسما من مصادر المعرفة المتوفرة، نبتعد عن ضوضاء الأحداث وتسارعها مؤقتا، وفوضى التفسيرات وعدم صلاحيتها، نقرأ، نحلل، نناقش، ثم نعود لواقعنا محمّلين بزاد أصيل فعّال، يكون وقودا للتفاعل والتعامل بأسلوب صحيح مع بيئتنا وعالمنا إن شاء الله.