الحجر المتقلّب لا يتثبت عليه بنيان، هذا ما يمكن أن أصف به أشخاصا هم ضمن البشر، يعيشون بيننا يتعاملون معنا، هي عينة موجودة في كل بقاع الأرض، تعاني منها المجتمعات، والمؤسسات والأفراد، منهجهم غير واضح، قولهم ليس محددا، ففي نفس اللحظة يعتقد الأمر وضده، ويتبنى الفكرة ونقيضها.

البنّاء حينما يبدأ تشييد بيت مكوّن من جدران وسقف، يختار الحجرة التي ستثبت بوضعها في مكانها، وحينما يطمئن من ذلك يضع فوق تلك الحجرة حجرة أخرى ثابتة أيضا وهكذا، نفس الأمر بنطيق على بناء المجتمع، وتأسيس المنظمات، وسير فرق العمل، فعلى الفرد أن يكون واضحا صريحا، قولا وعملا ليستحق مكانته المناسبة كحلقة من حلقات العقد ليكتمل، فيما إن كانت الحجرة متحركة لم تتخذ لنفسها موقفا واضحا فسينهار البناء في أية لحظة!

الرجل حينما يكون طبعه غير متّسم بالشفافية، يعيش حياته إمّعه، يبدأ معك الحديث ليعلم أي الأفكار تتبنى، وأي الآراء تعتقد فيذهب معك فيما ذهبت إليه، ويوافقك قبل أن تتكلم، ويخالف مخالفيك ويظهر ذلك بقدر أكبر مما تفعله أنت معهم، لكن حينما يكون في وضع آخر مع منتقديك يفعل نفس الخطوات، فيميل معهم ويتحامل عليك بشكل يحيّر ذلك المنتقد لك، وفي هذا الصدد قال الإمام الشافعي رحمه الله:

لا خير في ودِّ امريءٍ متلوّنِ إذا الريحُ مالتْ مال حيث تميلُ

هذا النوع ممن يشبه وضعه الحجر المتقلب لا يتخذ شكلا ولا لونا ولا سنّا معينة، فهو موجود في كل هذه الأنواع، يستلذ تلك التصرفات، ويمارس نفاقه بكل جرأة وأريحية، لا يكتفي بذلك قولا بل كتابة أيضا وهذا هو المشكل، فيكتب هنا مادحا فكرة، ثم يكتب هناك معارضا ماقتا لنفس الفكرة، وفي نفس الزمن، فلا أدري تفسيرا واضحا لهذا الأمر مما يجعلني أجزم بكونه معقدا نفسيا، يلزمه علاج مطوّل من أخصائيين ليصفوا له الدواء ويقتلعوا منه الداء فيصبح معافى بإذن الله بعد ذلك.

ربما يذهب قارئ لهذا الموضوع ويفهم بأني أدعو لاتخاذ رأي واحد وتفكير موحّد بالجمود على طريقة ومنهج دون إعمال الذهن، لم يكن هذا هو المقصود أبدا، فيمكن للمرء أن يغير من قناعاته لسبب أو لآخر، إلا أن التغيير يكون أمرا نادرا وإن تم فيكون بعد تعمّق وبحث مطول ثم قرار جريء، أما الشخص الذي يتبنى فكرتين متضادتين في آن واحد، ويعتقد أمرا صباحا لينفيه مساء، ثم يعود ليلا ليتراجع، ويصبح ديدنه الفقز من ضفة إلى أخرى، بحيث يصبح ذبابة يحمل الأوساخ من مجلس إلى آخر، يفتن هذا بذاك، ويؤجج الشرارة ولا يطمئن له بال حتى يراها نارا ملتهبة.

أستغرب من هؤلاء الأشخاص كيف يجدون مكانة في مجالس خاصة جدا جدا، فكلامهم المعسول يخفض لهم جناح ود أولئك الذين يقرّبونهم ويثقون فيهم، لا أنهم لم يكونوا أبدا بقدر تلك المسؤولية، فينقلون الأخبار ملغمة مفخمة، ويسرّبون الأقوال محرفة مزبفة، ولا يزالون كذلك إلى اليوم، فلا رادع لهم، ولا ضارب على يدهم، إن ملوا من صحبة هذا، انتقلوا لذاك، وشرّحوا الصديق السابق للجديد، فيما ينتظر ذلك الجديد دوره ليدخل غرفة التشريح إن حظي أصحابنا بجديد بعده.

بعد هذا أجدني أحاول ذكر السبب من كتابة هذا المقال، فالعنوان كنت قد وضعته في كمسودة منذ شهور، وقد قررت ألا أكتب عن الأمر حتى أعيش المشكلة جيدا، رغم أنها متكررة بمستوى أقل مما حدث هذه الأيام، إلى أن أخّرت مقالة كانت مبرمجة للنشر اليوم، وفضّلت الزج بهذا الموضوع المظلم الآن، فاللهم قنا شرّ هذا النوع من الناس، واهدهم واشفهم فلا شافي غيرك، ولا هادي سواك.