تعيش المجتمعات تحت رحمة صراع ناعم بين عدة سلطات تتنافس عليه ويدعي كل منها أن أمر خلاصها ونجاتها بيدها، فبين سلطة دينية، وسلطة علمية، وسلطة اجتماعية، وسلطة مالية، وسلطة قانونية إدارية، تتداخل الصلاحيات وتحتدم الخلافات أحيانا، فيستفيد المجتمع من ذلك التدافع إيجابيا تارة ولكنه يصبح ضحية لها حينما تسفه كل فئة أختها وتلعن كل سلطة غيرها خاصة لما يتعلق الأمر بالمكاسب وتقسيم الحظوات والغنائم.
بداية بالسلطة الدينية فهي التي تملك القوة الأعمق الأكثر تأثيرا بمنابرها ومؤسساتها التربوية التي تمرر بها رسائلها وتتحكم لحد ما بحركية المجتمع فيما يخص علاقاته، ولا أحد ينكر ثقل دروس الوعظ وخطب الجمعة والأعياد في رسم التصورات ومراقبتها بين عامة الناس.
أما السلطة العلمية فتتمثل في الكفاءات الأكاديمية التي تتخرج في الجامعات أو العصامية التي اتخذت مساراتها المعرفية بطريقتها الخاصة، وهؤلاء تتمثل منابرهم في الكتب والعوالم الافتراضية وفي ننشيط الملتقيات والمحاضرات والندوات، وهي سلطة لازالت تشق طريقها نحو القمة شيئا فشيئا.
السلطة الاجتماعية وهي التي كانت بيدها سابقا مقاليد المجتمع وحدها تقريبا، تهتم أكثر بالأسرة حقوقا وواجبات، وبكل مستوياتها المادية والاجتماعية، فهي سلطة مبنية غالبا على التضحية من خلال سنّ تقاليد وأعراف وضعت من وحي الخبرات والتجارب القاسية التي مر بها المجتمع، بحكم ظروف داخلية وقوى مؤثرة خارجية حتى يخيل لمن يرى بعضها في عصرنا بكونها مجرد حشو خاصة إن شمّ فيها رائحة تعارضها مع الدين أو بدرجة أخف عدم وجود نص صريح يؤصلها ويمدها بالشرعية بجرعة كافية.
السلطة المالية، وهي التي تتفاعل مع كل السلطات بمبدأ المكاسب المتبادلة، فلصاحب المال قوته ونفوذه وتحالفاته، حتى أنه يتمادى ويشعر بحاجة الجميع إليه فيفرض شروطا ويرى لدوره بشيء من القداسة تخوله ليتجاوز بعض الحواجز، فإن هو وجد ضالته صار متعاونا لأبعد الحدود، وإلا فسيشهر سيفه ويهدد بالانسحاب وسحب ما معه وما خلفه.
السلطة الإدارية والقانونية دخلت مضمار المنافسة كعامل قوي رغم حداثتها، فهي السلطة التي تمس جانب السياسة وتستنطق المجتمع عبر سلطاته الأخرى من حين لآخر لتأخذ منهم شرحا وتبريرا لخصوصياته فإن هي أقنعته بشتى الوسائل صارت سدا منيعا مدافعة عنه ضمن حلف النفوذ، وإلا استُعملت كورقة ضغط لتقديم المزيد من التنازلات.
الحقيقة التي علينا الوقوف عندها مليا هي وجود سفهاء وعقلاء في كل سلطة مما ذكرت، أغبياء وأذكياء، انتهازيون ومخلصون، تقليديون ومجددون، مكابرون ومعترفون، وكلهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فالفريق الأول منهم يمنح المجتمع أنفاسَه ويشكل تحالفها جميعا لوحة فنية بديعة وإن علا بعضها على بعض أحيانا فالحكمة في تبادل الأدوار وتقسيمها بما يخدم مصلحة المجتمع.
أما الطرف الثاني فهي الفئة الثانية التي تعجل بزواله وتدفع به كل مرة للمآزق والمتاعب فتضيع بذلك جهود وأوقات وأموال لاسترجاع ما يمكن استرجاعه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعادة هي فئة استوطنت في مناصبها إما تسلقا من دون كفاءة بعامل التوريث، أو من عمّرت طويلا معتقدة أن الموت في كرسيها شرف، بينما هي تهدم كل خير قامت به قديما، فالزمن ليس زمنها والواقع أبعد ما يكون من تفكيرها وفهمها.
ذلك الصراع وإن كان حتميا من باب التدافع يؤدي -في حال بروزه للعلن- لغربة الكثير من الشباب والكفاءات عن مجتمعهم غربة حقيقية أو افتراضية، فهم معه كأجساد مستهلكة، ولكنهم غائبون كعقول مولدة مبدعة ينزل غيثها في بيئات أخرى تستفيد منهم وتنعم بنتاجهم.
الأزمة تلد الهمة، وتوحد الصفوف، وتختبر المعادن، فلا يبقى في الميدان إلا الأقوى حجة وفكرة ومبدأ سواء أكان صوابا أو خطأ، لذا فإننا أمام حقيقة لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها، فالعمل الاجتماعي يتطلب النفَس الطويل والقلب الواسع والنظر البعيد، رغم أنه قيل: “كلما كبرنا في العمر ضعف البصر واتضحت الرؤية” فهل سنعتبر؟