كلما زرت بلادا غربية شدتني بعض الأفكار هناك وسلبت راحتي، وفي كل محطة من محطات الزيارة كالمدارس، والجامعات، والمصانع، والأسواق التجارية، والكنائس، والملاعب، والفنادق، والمطارات، والمدن ككل، أجدني أمام فكرة جلية تهزني هي الفعالية!
فعالية متجاوزة لمفهوم المبادرة إلى درجة من الوعي والثقافة المتجذرة في الحياة اليومية، فهناك يوجدون حلولا تقنية لكل إشكال يعترض حياتهم بوتيرة رهيبة تجعل كل خطوة عندهم محسوبة مدروسة وقد جاءت كحل بعد خلل وقع مرة واحدة أو بعدد قليل وبعدها يبذل الجهد والوقت والفكر في ابتكار الحل الأنسب عمليا لتفادي تكرار الخلل وهكذا… بل أكثر من ذلك فهناك تأسيس لآليات بيع تلك الحلول واستثمارها فهي لا تنفعهم فقط بل تدر لهم أموالا وعوائد هامة جدا.
بينما أجدني -وأبدأ بنفسي- ضمن سياق يصف المشاكل والوقائع ويتفنن فيها لكنه وصف قاصر على وجهة نظر ضيقة تفتقد للشمولية والإنزال لأرض الواقع كحل عملي، وإن وجدت فهي أسيرة إنسان ابتكرها واحتفظ بها في ذهنه، ففي حضوره تسير الأمور على علاتها، وفي غيابه تحدث الكوارث!
بتعبير آخر… هم هناك ماهرون في صياغة أنظمة عمل بسلسلة آليات (أسباب) لها بداية ولها نهاية (نتيجة)، بأسلوب يمكن تدريب مستخدميه عليه، وبخطة مدروسة أيضا من مختلف جوانبها، بهذا تجد الاهتمام هناك باستشراف المستقبل وتوقع حاجات الإنسان وإنتاج البدائل، بينما الإنسان في العالم النامي يتخبط في مشاكل قديمة يكرر اجترارها كل مرة، فهي تحجب عنه ضوء الأفق وتجعله دائما قابعا في نفس الدرك السفلي.
ربما نتساءل عن السر؟ فنجد أنه في تجسيد معنى “الفعالية” بجدية وتفان، فما كان في الميدان قد ولد من رحم الجامعات وشركات التصنيع التي تعتمد البحث العلمي والتطوير ركيزة من ركائزها، مع التنبه للتوجه المادي النفعي في الكثير منها ولو على حساب المقاصد الإنسانية الكبرى، فالنهم والجشع في سبيل تحقيق الأهداف المادية ظاهرة مقلقة هناك أيضا وجبت مواجهتها بأفكار أكثر فعالية وأصالة.
حديثي ليس على مستوى الدول فقط كي لا نبقى حبيسي الشكوى وتبرئة أنفسنا إنما في أعمالنا وبيوتنا وما حولنا، فكم من إشكال حدث لنا ووجدنا له حلا وحولناه لنظام عمل مفيد لنا ولغيرنا؟
لو نبسط المسألة أكثر ونكتب بفعالية أفضل فسنخلص لنتيجة تتضمن البدء بالدائرة الأضيق نحو الأوسع في تجسيد مفهوم “التطوير المستمر” لما بين أيدينا، فنحصي الإشكالات، ونقترح لها حلولا، ثم نختبرها ميدانيا، ونقيم أداءها، بعدها نقرر إن كانت هي الحل، أم نفكر في بدائل أفضل منها، وكل هذه العملية تصبح متعبة شاقة غير مجدية إذا نحن لم نعتمد الكتابة ووضع النظم منهاجا لنا، فنستحضر في ذلك غيابنا في أية لحظة، ونطرح السؤال: كيف نجعل الأمور تسير بشكل أفضل في حضورنا وغيابنا؟ ونبحث عن الحل لذلك بشكل جاد.
الفعالية نظريا هي أبسط مما نتصور، لكنها كمفهوم لا يستقيم بالكلام وكثرة الوصف، بقدر ما يتطلب أثرا ملموسا في أسلوب حياتنا، فلا نتوقع الكثير إن كان أكبر جهدنا في الإغراق في المقارنات دون تنزيل حقيقي لأرض الواقع، ولكن إن نحن بدأنا التحرك في بيئات سكننا وعملنا ودراستنا، فستبدأ الثمار بالنمو سريعا.