ربما يظهر العنوان بصيغة فلسفية، أو يصلح لرسالة تخرج من كلية أدبيّة، غير أني استعملته هنا تجاوزا لاسلّط الضوء على نقطة طالما أهمّتني، مما رأيت وأرى حولي في مدونات الأصدقاء من تجاذب وتنوع، حتى كاد البعض يدعي الصواب لنفسه ويرمي غيره بالخطأ والخروج عن جادة التدوين.

وبجولة بسيطة بين المدونات العربية نجد منها المتفائلة والمتشائمة، والمنطلقة والمنزوية، والجريئة والمحتشمة، وغيرها من المعايير والصور، فالكل حرّ في ما يكتب ومسؤول عن ما يصدر منه وحده فقط.

التدوين في أصله وجوهره يتّصف بالحرية واللاحدود، وهذا من أهم عوامل انتشاره في العالم، بين أوساط الشباب والشيوخ، الذكور والإناث، المثقفين والعوام، ففكرته البسيطة المتمثلة في الكتابة عن الهوايات والميولات والخواطر والأراء، المهارات والتوصيات،… جعلت منه قوة يحسب لها ألف حساب، بعدما تطور صداها ونما وتوسّع، فكثر المدوّنون وزادت شعبية مدوناتهم، وظهرت ردود فعل هنا وهناك، ونشبت حروب إلكترونية خفية وظاهرة، بين ما يسمى بالإعلام الكلاسيكي والإعلام الجديد، فالكل يرمي الآخر بنقائصه ويغطي أو يتجاهل فوائده، وكانت الحرب سجالا فمرة تميل الكفة لطرف على حساب آخر، ومرة العكس، كما وقعت تحالفات وتكاملات بينهما في بعض المراحل والأوساط، حينما اقتضت المصلحة ذلك.

لو نتعمّق أكثر في التدوين نفسه نجد أيضا فريقين على غرار الإعلام نفسه، فمن المدونين من يعتمد الأسلوب الواقعي في كتاباته ومنهم من اختار المثالية، فالأول يركز على وصف الواقع مهما كان مريرا أو مزدهرا، ويقدّم نفسه ككاتب في طبيعته ومستواه الحقيقي، أما الثاني فيتفنن في رسم حياة غير التي يعيشها، ويعبّر عن شخصيته بأسلوب غير الذي يعيشه حقا، حيث يعتمد رواده على ما يجب أن يكون لا ما هو موجود.

بداية أضع كتّاب الواقعية تحت المجهر وأحاول تحليل بعض النقاط فأجد مثلا أن المدوّن الواقعي يسعى لإيجاد بديل لإيصال رأيه وإسماع صوته، كما يشعر به دون مجاملة أو تستّر، بعدما لم يجد تلك الفرصة في مكان آخر، فيكتب عن المشاكل والنقائص التي يعاني منها مجتمعه أو دولته ككل، لكن عليه ألا يبقى في دائرة الوصف وينتقل لإيجاد الحلول والبدائل الممكنة وفق الظروف والوسائل المتاحة.

كما يمكن أن يأتي الواقعي بظواهر إيجابية عاشها أو يعيشها ويطرحها للاقتداء ويجمع لها الأدلة وييسّر لها الطرق والوسائل، فالمتشائم والمتفائل كلاهما هنا يمكنهما أن يخدما القارئ ويقدّما له ما يستفيد منه، كما يمكنهما أن يقعا في المحظور بانتهاجهما لأسلوب المبالغة في الوصف سواء بالسلب أو الإيجاب.

يمكن أن تتجلى صور التدوين الواقعي أيضا في طرح القضايا ومعالجة المستجدات ونقدها، فيبدأ الكاتب في التحليل سواء بالتأييد أو المعارضة، وهنا عليه ألا يكون متسلّطا متصلّبا برأيه، فهو لا يكتب لنفسه فقط، بل يحاول طرح الآراء وتقييمها وفق مستواه، ثم في الأخير لا مانع من ترجيح الكفة لما هو مقتنع به مع انفتاحه وترك باب المناقشة مفتوحا لقرائه.

أما في الجانب الآخر وهو التدوين المثالي، ففي جانبه الإيجابي يمكن أن نضعه في إطار بناء مملكة افتراضية، يلجأ فيها الكاتب لكتابة الخواطر واستعمال الخيال بعيدا عن مشاغل حياته، وهنا يكفي أن يكون ذا رصيد لغوي كاف، ليسبح في بحر العواطف، ويتفنن في رسم صورة كلها أحلام وأمان، وهذا النوع لا يقل أهمية كونه زاوية إبداع أدبية وفرصة إفراغ لشحن تكدست في صدر الكاتب، كما يمكن أن ترقى هذه الخواطر للتعبير عن واقع الكاتب لكن بأسلوب رمزي بحت، فنجد هنا أن المثالية مطلوبة أيضا في التدوين.

لكن في ماذا تعاب المثالية؟ حينما تتعدى مثالية المدوّن من كتاباته وخواطره الخيالية إلى وصف نفسه وشخصه بأرقى العبارات وأفخمها، فينعت نفسه بالخبير في كذا وكذا، ويسرد شهاداته ودبلوماته التي تحصل عليها في دورات لا تتعدى اليوم واليومين، ويطرح خدماته الاستشاريه على من يطلبها وهو لم يتعدى السنة والسنتين في مجال تخصصه، حتى يُظهر للقارئ مدى رسوخه في العلم، كل هذه الأمور تنقص من قيمة المدوّن وتجعله شخصية هلامية أمام القارئ سرعان ما ينكشف ضعف مستواه من خلال كتاباته وطرحه.

فالأمانة تقتضي علينا انتهاج الواقعية في وصف أنفسنا، وكل منا يترك عمله وأثره يعبّران عن شخصيته وليس ما يصف به نفسه هو، اترك القارئ يكتشفك على ضوء ما تقدّم له من مادة علمية، أما المثالية في الطرح فلها إطارها الخاص والمحدود، ويمكن استعمالها في أوانها ووفق مقتضياتها، فوق خشبات المسرح مثلا.

اعلم أخي الكاتب أن القارئ له رصيده من الثقافة والقدرة على التمييز بين القيّم والسيّء، وحيثما تضع نفسك ستجد الصدى، لذا عليك أن تكتب لمن في مستواك، وتتشط مع من تعتقد أنك ستنفعهم وينفعونك، وهنا المسألة لا تتعلق بالسنّ إطلاقا، فكم من شاب صغير تكبره كتاباته بعقود من الزمن، كما أن هناك رجال في الخمسينيات من العمر ليتهم ما صرّحوا بأعمارهم بالمقارنة لما يكتبون، ابتعد عن الشعارات المنفوخة، والأوصاف البرّاقة، واهتم بالمحتوى أولا، كي تكسب ثقة القارئ، ولا تركّز على العناوين الرنّانة، فشخصيا أنزعج من مدوّنات يطلق عليها كتّابها أرقى الأوصاف ويصنّفونها في تخصصات دقيقة رفيعة، حيث أستبشر خيرا أول الأمر، وما إن أدخل فيها وأقرأ موضوعا من مواضيعها أجده بعيدا كل البعد عن التخصص التي وضعت فيه، فهذا من أسباب طرد القرّاء من المدوّنات، كما هو من أسباب اتهام التدوين عامة بعدم المصداقية والدقة أحيانا.

كن واقعيا في طرحك، وابتعد عن المثالية السلبية، التزم الصدق، تواضع في وصف نفسك، ابدأ من نقطة الصفر وابن لك اسما ومجدا من عرق جبينك، كلها نصائح سمعتها من أصدقاء أوفياء وأردّدها على مسامعك أخي القارئ العزيز، إذا كنت ممن يريد شقّ طريقه في عالم جميل، ما إن تركب أمواجه العاتية حتى تتمنى ألا تخرج منه أبدا، فكلنا مبتدؤون، في طريق التعلّم والتكوين، والكتابة من أهم مدارس التدريب في الحياة فجرّب وأخبرني بالنتيجة!