جرني الحديث يوما مع صديق يمتهن التصميم الفني كمصدر رزق له، وكان موضوعنا حينها هو دور الإنترنت في تنمية مهاراتنا في المجال، فطرحت وجهة نظري بوجوب الاطلاع المستمر على الإنترنت واستعمالها كوسيلة مفيدة، بينما التزم صديقي رأيا آخر تمثل في استغنائه التام عنها بل اعتبرها أداة معطلة للإبداع ومثبطة له.
لا أنكر أن في رأي صديقي نسبة من الصواب، كما لا أدعي عكس ذلك من جهتي، إلا أن القضية فعلا تحتاج للبحث والإنارة أكثر، بهدف ضبط بعض التفاصيل، وفك الغموض عن بعض زواياها، وكذا استجابة لأسئلة وردت من مصممين في هذا السياق، على شاكلة، ما دور الإنترنت في تنمية مهاراتي في التصميم الفني؟ وهل من الواجب استعمالها؟ ماهي المحذورات من ذلك؟ كيف أستعملها كوسيلة مساعدة مكملة متفاديا أضرارها وانعكاساتها السلبية؟ ماهي أفضل الطرق والتقنيات في ذلك؟… وغيرها من الإسئلة.
أولا وكما نعلم فالإنترنت بحر شاسع يحوي في ثناياه الغث والسمين، المفيد والمضر، ومابين موقع ومنتدى ومدونة وشبكة تواصل اجتماعية، وبين برنامج محادثة مباشرة، أو بريد إلكتروني… إلخ نجد أن مشاربها متعددة وبكثرة، والجديد فيها متسارع بوتيرة رهيبة، تجعل من يحاول الإلمام بكل تفاصيلها حائرا لاهثا دون جدوى مما يهدف ربما، فيتساءل أي منهج يختار وأي مسار يعتمد، باحثا في كل ذلك عن النجاة إلى بر اكتساب المهارة وإتقانها والتحكم فيها بما يخدمه ويدفع بعجلة التطور لديه نحو الأمام.
هذا الحديث أساسا يجرنا إلى الاستفسار عن أهم الفوائد وراء الإنترنت بالنسبة للمصمم الفني هاويا كان أم محترفا، فنسرد جملة منها على السريع على سبيل الأمثلة لا الحصر، فنجد أن الاحتكاك بين أصحاب المجال المشترك احتكاكا إيجابيا بنائيا يدفع بعجلة تطورهم ونموهم المعرفي بشكل مهم، وربما أنسب محيط لهذا هو المنتديات القيمة الجادة، مع أهمية اللغة المستعملة أيضا، فمن يتقن أكثر من لغة ليس كمن يستعمل واحدة فقط، وواقع الحال يجعلنا نقر بأن جودة المحتوى في غالبيته يوجد في المنتديات الإنجليزية.
وعلى خط مواز للمنتديات نجد المدونات المتخصصة أيضا في نشر أعمال المصممين مجسدة، أو أفكارهم مكتوبة، وهذا يجعل الناقد والمصمم المتعلم يتواصل مباشرة مع المبدعين، يرسل إليهم إشكالاته وانشغالاته، ويتفاعل معهم في محطاتهم الإبداعية ليستفيد في الأخير من كنوزهم ونقاط قوتهم، مع الإشارة لكون المواقع التي تقدم خدمة معارض الأعمال (Gallery) لها فائدة كبرى، فالإستلهام منها له دور جوهري لتوليد الأفكار وتطوير اللمسة الفنية، والفرق واضح بين من يرى ويكتشف، وبين من يحصر نظره في نفس المناظر ونفس الأشكال، من أين يأتي الإبداع بعد ذلك؟
الاطلاع على الجديد في حينه، ومواكبة المستجدات أيضا مما يثير فضول أي شخص في مجاله، ونفس الأمر يتعلق بالمصمم الفني، مع أن الأمر يتعدى الفضول إلى فطرة متجذرة في الإنسان تجعل منه محبا للتطور واكتشاف الجديد الحصري كل مرة، مثل البرامج والتطبقات وملحقاتها وما يدور في فلكها، ولا أعني بهذا أن المصمم الذي يستعمل آخر إصدارات البرامج يعتبر مبدعا وقد بلغ الكمال في مجاله، فالتقنية ماهي إلا وسيلة مساعدة لتحقيق الإبداع وإنتاج الأفكار الملهمة، فلا ننخدع باستهلاكنا لآخر إصدارات برامج التصميم بقدر ما علينا العمل على تنمية حسنا الفني ثم بدرجة أقل مهاراتنا التقنية.
الإنترنت تقرب لنا كل بعيد، فالكتب والمجلات التي كنا ننتظر وصولها إلينا عبر البريد بعد طول صبر لنبهر بصورها وألوانها، صرنا نتصفح المئات منها في الإنترنت على شكل PDF، والمعاض والمؤتمرات التي كنا لا نسمع بها إطلاقا، وإن حدث ذلك كان بعد فوات الأوان، أصبحنا والحمد لله نتعرف على أهم مجرياتها قبل حدوثها، بل تعدى الأمر لإمكانية المشاركة فيها عن بعد دون السفر إليها عبر الوسائل الحديثة مع ما في حضورها من فائدة مهمة لا يعوضها التواصل عن بعد بأي شكل من الأشكال.
تعلم أصول الفن ومذاهبه ومدارسه أمر هام وضروري لكل مصمم فني، وبعدما كانت مصادر المعرفة محتكرة على الكتب الصفراء أو المجلات النادرة الباهضة الثمن، والتي لا نجدها متاحة لأي منا، أخذت الإنترنت الدور، ويسرت سبل التعلم والتدرب باكتشاف خبايا المجال في أدق تفاصيله، مع متابعة الجديد منه في أرقى أوعيته، بمواد سمعية بصرية، أو مكتوبة أو مصورة… إلخ.
المقصود من الاستلهام والاحتكاك بذوي الخبرات في مجال التصميم يجرنا للحديث عن التقليد، والفرق بينهما واضح وضوح الشمس، فأن تبدع لا يعني أن تسرق أعمال غيرك لتنسبها لنفسك، ابتغاء مكانة زائفة أو بضع دنانير زائلة، ولعل هذه الظاهرة الدخيلة مما جعلت بعض المصممين يستنكفون عن نشر إبداعاتهم الجديدة في الإنترنت، وإنما ينتظرون لتمضي عليها مدة زمنية طويلة حتى يتيحونها للعرض، فالأخلاق هنا تستلزم منا احترام الملكية الفكرية والفنية لأصحابها، مع ذلك نبقى دائما معرضون لظاهرة التقليد الأعمى الصارخ، وهذا وباء موجود في كل مجال ومكان وزمان.
الغوص في الإنترنت مفيد لكل مختص في أي مجال ليصقل مهاراته، ويختبر أداءه مع أقوى المنافسين، فهي فرصة لكسر الحواجز والتواصل مع من فرقتهم الحدود، وأثقلتهم ظروف الحياة من اللقاء وجها لوجه، فشتانا بين مصمم يعرّض نفسه وأعماله للنقد ليتطور، وبين من يحصر نفسه وأعماله في مكتبه مخافة أن يؤذى ولو بريشة من رياح غيره، فالمخاطرة سبيل للنجاح والوصول للقمة، والبحث الجاد والعمل والفعالية كلها مفاتيح تحقيق الأهداف، وأرى أن الإنترنت أفضل مكان لذلك.
على كلّ، صار صديقي بعد هذا يستعمل الإنترنت، ولا أدعي أني السبب كما لا أدري سبب اقتناعه في الحقيقة، وقد أخبرني باستفادته منها كثيرا في أكثر من فرصة، العبرة من وراء ذلك كله أننا نقرّ مرارا أن الإشكال أبدا ما كان في التقنية بقدر ما هو في ذهنيتنا كمستعملين لها، ونحن فقط المسؤولون عن انعكاساتها ونتائجها، والسؤال المطروح هو: هل نحن مستهلكون سلبيون أم إيجابيون؟
Comments (4)
أشكرك أخي جابر على الطرح المميز لهذا الموضوع الذي لايقل أهمية عن المواضيع المطروحة في مدونتك المفيدة.
هي نفس المشكلة التي واجهتها مع أحد الأصدقاء والذي أعرف جيدا أنه من المبدعين إن قرر الإنطلاق وقبل ذلك أرى أننا ـ نحن الشباب ـ يجب أن نتوب عن ذنب آخراسمه: خطيئة البدأ من الصفرو التي يحترفها أصحاب المناصب عندنا وأصبحت ورما حميدا يسكن عقلياتنا ثم نبدأ من حيث انتهى الآخرون فهم وصلوا إلى ما وصلوا اليه حينما انطلقومن حيث توقفنا .
سجل اعجابي لطرحك واحترامي لرأيك
أهلا سيدي نعيم، فعلا قضية البدء من الصفر أو اعادة اختراع العجلة كما يعبر عنها داء موجود في بعض الذهنيات التي تمارس لحد الآن في عدة مجالات، لذا وجبت التوعية، بارك الله فيك وشكرا على تعقيبك القيم.
رغم أني لست مصممة فنية لكني استفدت من الموضوع فماينطبق على علاقة الانترنت بهذا المجال يمكن تطبيقه على مجالات أخرى كالكتابة الأدبية والشعر والتصوير ..شكرا لك 🙂
صحيح، فما مجال التصميم إلا كمثال، وكما أشرتٍ فيمكن إسقاط التجربة على أي مجال، أحيي فيك متابعتك والسلام