بداية لو نتفق على أن المدرسة بشكلها المعتاد الذي يتبادر لأذهاننا مجرّد رافد من روافد التعليم والتربية إضافة لاحتمالات أخرى تسهم في تكوين شخصية الطفل، بينما أصل الوقت والاهتمام يجب أن يكون بين أحضان الأسرة، فهي الملاذ الآمن له من تقلبات هذا الزمن ومستجداته.
بغير هذا فهناك احتمال وارد جدا بانتقال الأسرة والمدرسة من علاقة التكامل إلى علاقة المنافسة، ومن العمل لمصلحة الطفل إلى التآمر ضده، مما سيؤثر سلبا على مستقبله ويجعل منه نسخة هجينة يبحث عن دوره وجوهره فلا يصل لنتيجة ترضيه هو ولا مجتمعه، وهو الواقع الذي نراه كنقد وانتقاد لجيل المدرسة الذي فقد أبرز مقومات طفولته وشبابه وفقد السيطرة على نفسه بعدما ظن أنه يمارس حريته في الحياة.
سنبقى في ثنائية الأسرة والمدرسة ونستعرض بعضا من أوجه التوافق والتضارب فيما بينهما، وكما نعلم فلكل منهما وقته الذي لا يريد أن يأخذه الآخر منه أو يقاسمه فيه، إذ نجد المدرسة تسائِل الطفل عن تأخره وغيابه عنها وترفض أن يبقى في بيته وتعتبره خرقا لقوانينها، بينما من جهة أخرى تقحم نفسها عنوة في وقت الأسرة بتكليف الطفل بالواجبات المنزلية على وجه الإلزام، وشيئا فشيئا صارت القضية محسومة وصار الواجب المنزلي الذي كان يمنح باحتشام فيما سبق يرافق الطفل يوميا ويلتهم وقتا معتبرا من أوقاته خارج المدرسة.
للأسرة الحق هنا أن تطالب المدرسة بالكف عن مد يدها لوقت أبنائها في المنزل وتكليفهم بحل واجبات وتمارين خارج الفصل، وهذا دون أن تضطر لشرح مطالبها ومبرراتها كل مرة، لأنهم في الأخير أبناؤها، وهي الأحق بهم سواء لعبوا أو ناموا أو مارسوا هواياتهم كما يحلو لهم ولها.
أضم رأيي للآراء التي تطالب بالحد من النفوذ والتأثير المدرسي على شخصية الطفل، والكف عن لعب دور الوصي الذي يحمل أمانة قصّرت فيها الأسر، لأنه نفوذ غير بريء بداية، وغير مبرر ثانيا، فكيف نفسّر تذمر معلّم من طلبته وهو يدرّسهم ويطالب أولياءهم بتوفير ما يحلو له من الشروط ليتفوّق الأبناء ويرفعوا أسهمه في سوق المدارس بمعيار النقطة المدرسية والفرض الفجائي والاختبار الانتقائي الذي لا يعبّر عن حقيقة ذلك الطفل، فرغم أن الكل يعلم بهذا، إلا أن الميدان وشغف الأرقام ينسيهم مواجهة الحقيقة.
ماذا لو استيقظنا صباح يوم فوجدنا المدارس قد اختفت؟ هل ستكون حيرة الناس لأجل ذلك حيرة في صالح أبنائهم أم لأغراض أخرى؟ فمن أسرة كانت ترتاح من أبنائها ليستغرقوا وقتا مهما خارج البيت دون اهتمام ولا سؤال عنهم لمجرد أنها صرفت لذلك مبالغ معتبرة، إلى أسر ظنت ثم اعتقدت أن المدرسة ستشكل بديلا عن دورها فتخلت عنه وهي تنتظر عصا سحرية في يد المعلم يضرب بها ابنهم ضربة خفيفة ليصبح ذكيا عبقريا ناجحا، فمن المسؤول عن ذلك الوهم الذي انتشر بين الناس فصارت الأسرة تحاسب المدرسة عن تقصيرها وإخلاف وعدها في تتويج أبنائها ضمن النخبة؟
المسؤولية مشتركة في الحقيقة، فمن المدارس من تنسى بسرعة تلك اللحظات التي وقف مديرها أمام ولي طفل أتى بابنه من مدرسة أخرى وهو يرسم له الخيال ويحكي له قدرة مدرسته السحرية في مرافقة ابنه نحو بر الأمان، فعندنا ستجد كل ما فقدته في المدرسة الأخرى، ونحن نموذج متفرد قل نظيره، ونحن نعلّم وفق منهاج أرقى المدارس العالمية، و…إلخ، يحدث هذا خاصة في الكثير من المدارس التي قدّمت نفسها كبديل للتعليم الرسمي الحكومي.
كم من موهوب قُلّمت مواهبه في المدرسة؟ وكم من مبدع ضربت يده التي كان يرسم بها في دفتر النصوص؟ كم من مقاربة مرت على المدارس كتجارب تم تسويقها ووصفها بالبديل الأفضل؟ هل بعد هذا لا زالت المدرسة بطاقمها تعتبر نفسها فوق العادة، وتقدّم نفسها كمنقذة للأسرة وهي تتخبط في مشاكلها تلتمس طريقها مستجدية.
الحل يأتي من الأسرة نفسها عندما تتصالح مع نفسها وتدرك دورها، ومن المدرسة كذلك حينما تعيد التموقع من جديد، وتعترف بتقصيرها فيما مضى كما تطلب ذلك من الأسرة، والأهم من ذلك أن تعترف بعدم حريتها المطلقة في منهجها، فهناك دول وأنظمة وحكومات من ورائها يضعون الخطط وينتظرون صنفا معينا من الأجيال لخدمة طلبها الكبير في سوق الوظائف إن هي انتهجت سياسة التوظيف، وكذا رواد الأعمال إن هي اضطرت لتغيير اتجاه شراعها نحو وجهة التصنيع والاستثمار.
المكابرة وتوجيه أصابع الاتهام من طرف لآخر من شأنه أن يقلل من فرص التقدم والنمو، فما بالنا إن كان المتسرع للاتهام فرع من الأصل؟ فإن أردنا تصحيحا للمسار وتصويبا للمسير فإننا أمام حتمية رد الاعتبار للأسرة وانتهاج منهج الجودة عوض الكثرة فالزمن زمن الخيارات المتعددة تعددا زائفا بشكل مغرٍ لكنه لا يعكس لحقيقة، أما عن المدارس فبشكلها الحالي هي لا تحقق ما تدّعيه لأن الأمر أكبر منها ولا لوم عليها فمن أسّس نظامها وفكرتها قد لا يقرأ مثل هذه المقالات والآراء.
المقالة منشورة في موقع ساسة بوست