العارفون بالسياق السياسي والدبلوماسي يدركون جيدا ما تعنيه الألقاب المتعلقة بأصحابها وفق مناصبهم مثل: معالي الوزير، سمو الأمير، سعادة السفير، فخامة الرئيس، جلالة الملك.. وغيرها من الرتب، وكذا ما تعلق بتوصيف الدول كالمملكة، والجمهورية، والسلطنة.. قبل ذكر اسم الدولة..
هذه الصرامة في إطلاق الوصف كتابة أو حديثا تفرض الالتزام بها، لأعراف وتقاليد راسخة لا يمكن تجاوزها ولو لم تعجبنا.. وقد تحدث الخلافات والأزمات في حال إهمالها أو العبث فيها عمدا أو حتى خطأ وعن حسن نية.
نفس الأمر ينطبق على السياق المعرفي الأكاديمي، فالأستاذ رتبة، والدكتور رتبة، والبروفيسور درجة لا تطلق إلا بناء على مرسوم رسمي، كما يوصف الباحث بالطالب عند تقدمه لنيل أي درجة علمية مهما كانت.
قد نتساءل عن الجدوى من كل هذا، وما هو الخلل لو نادينا شخصا بما نريد لا بمستواه هو، وهذا ما يحدث في إعلانات المحاضرات والفعاليات أحيانا كأن يوصف شخص بالدكتور وهو لم يتحصل على الدكتوراه بعد، أو يجرد منها آخر وقد تعب لأجلها واستحقها بجدارة، وهي مسؤولية المنشط والمقدم، وناشر الإعلان ومرسل الدعوة.
هنا يعتبر الخلل خللا حقا، بما أن الدرجة الأكاديمية غير معتبرة، مما ولد في المجتمع ظاهرة نفخ بعض الفارغين بأوصاف أكبر منهم، وهم مبتهجون بذلك فرحون بما لم يفعلوا، فصار من تبدو لحيته قليلا شيخا، ومن قدم دورة تكوينية -أو كاد- مدربا دوليا أو كوتشا محترفا.
يؤسفني أن أشاهد أساتذتي الذين حفروا الكتب حفرا، ونالوا الدرجات العلمية بعمق واقتدار يمرون جانبا لا لشيء سوى لتعففهم وتواضعهم، ومن جهة ثانية تبدو بعض الفقاعات وتجر معها أوصافا تكبرها بمئات السنوات الضوئية، يتصدرون ويتجرؤون ويدعون وهم يدركون في قرارة أنفسهم أنهم لا يفعلون شيئا سوى أنهم يأكلون الخبز اليابس على من يستمع إليهم ويستلذ خطابهم.
بيئتنا مسالمة جدا مع الرداءة، متساهلة مع الهشاشة المعرفية، تتعامل بمنطق المظاهر وتشجيع المتعالمين، تصفق لأنصاف الإنجازات.. لقلة الإنجازات الحقيقية.. ولو كان هؤلاء في بيئات أخرى أكثر صرامة لما وجدوا مكانة ولا اعتبارا إلا إذا اجتهدوا حقا.. وابتعدوا عن التفاهة.. ووصف فعالياتهم بالأضخم والأجمل والأقوى والأكبر.