من قواعد الحياة وسنن الكون أن يكون لكل تجربة أعداء ومؤيدين، ومن كلا الطرفين تستمد تلك التجربة وقود نجاحها، أو أسباب فشلها، لذا وجب أخذهما بعين الاعتبار، وجعل تحركاتهما في الحسبان دون مبالغة أو تجاهل، إلا أن أصعب ما في هذه المعادلة هو الطرف الثالث، من ادّعى الحيادية وأضمر غيرها، فكيف العمل معه؟

تركيا التي برزت بشكل لافت في الساحة الإعلامية بمغامراتها التي أفلحت فيها بنظر فئة، وأخفقت بنظر فئة أخرى، وأيا ما كان الصواب مع طرف دون الآخر إلا أن ما يهمنا الآن أنها صنعت الحدث في كثير من الملفات الدولية، وبتعبير أدق فبعض الرجال فيها كانوا السبب في ما وصلت إليه حاليا من اهتمام إعلامي مشرقا ومغربا، لذا فهي الآن تدفع الثمن!

هذا الخيار الاستراتيجي في علم الساسة ومنطقهم في العمل علنا أمام الأنظار أو خفية وسرا يؤدي لنتائج واضحة إيجابية في بعضها وسلبية في البعض الآخر، والمتحكم في إيجابيتها أو سلبيتها هو التخطيط المحكم، ومعالجة ذلك الخيار من كل زواياه الفكرية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

المتابع للشأن التركي ولمسيرة حزب العدالة والتنمية خصوصا يلاحظ إفصاحا عن الكثير من الخطط والمسارات داخليا وخارجيا (*) على غير المعمول به في كثير من الدول، ومن باب الإنصاف نقول إن هذا التوجه على الأقل لحد الآن هو المجدي والأنجع، مقارنة بما يحصل في أرض الواقع من تغير جذري في الذهنية التركية نفسها، وكذا في نظر العالم لهذه الأمة المستيقظة بعد حقبة زمنية من الدمار والتخلف.

بعيدا عن العاطفة وما يجعل من آرائنا تساند أو تعارض هذه النهضة التركية، دعونا نستقرئ أرقام الاقتصاد وهو الرئة، والتعليم، والصحة، والهوية التركية نفسها، وهذه الأرقام متوفرة وبدقة في عديد المصادر ويسهل الاطلاع عليها، فلو أغفلنا جانب الدين والفكر التركي -تجاوزا وتنازلا-، ونظرنا للمسألة بزاوية آلية منطقية لرأينا ذلك الحجم من التقدم، وتلك السرعة من التطور، وليس من رأى كمن سمع.

أمام هذا لابد أن نسمع الصوت المغاير، المعارض لسياسات حزب العدالة والتنمية رغم عدالته وتنميته، ومن أبرز معالم هذا الصوت تكبير الأخطاء ومضاعفة أبعادها، وتقزيم الإنجازات التي لا تخفى وتحجيم آثارها، وهذه المعارضة أمر مشروع بل ومطلوب كمرآة تعكس الأخطاء ومواطن التقصير لينتبه لها من بيده الأمر فيصوّب ويعدّل، إذن المعارضة الداخلية أمر مفهوم ولا جدال فيه.

أما المعارضة الخارجية فهي أيضا تسخّر إمكاناتها الإعلامية لوقف الزحف التركي بكل أبعاده، السياسية والفكرية، الاقتصادية والاجتماعية، وهذا كذلك من قواعد اللعبة بين القوى والأمم التي تريد السيادة وبسط السيطرة، فالخط الفكري متعارض تماما ين تركيا وقوى الغرب، وإن ظهر مشابها ومداهنا بشكل ظرفي، لكن الحكمة تقتضي عدم إظهار كل الأوراق في أول المشوار، ولكن لكل حادثة حديث!

كل ما ذكر يعتبر من أبجديات الصراع بين الكبار، وسواء كانت تركيا أو الطرف الآخر فالكل مستعد لمجابهة مد الآخر، لكن ما يثير الانتباه والغرابة هو الرياح الجانبية التي تختفي طيلة الطريق ولا تظهر إلا حينما يضيق بك الممر، ويتحتم عليك الظرف المشي فوق خيط رفيع لتصل للضفة المقابلة، وهذا ما أراه رأي العين في أحداث تقسيم الآخيرة وتعامل بعض وسائل الإعلام العربية معها، تأسيا واقتداء بأمهاتها في الضفة الأخرى من العالم.

فدول الربيع العربي كما يقال كانت على طول الخط مع قيادة تركيا الحالية ولم تهول من الأحداث ولم تمنح لها فرصة كبيرة من الظهور في واجهاتها إلا من نماذج استثنائية، كون القيادة التركية نفسها دعمت المرحلة وساندتها بكل ما أوتيت، مرتكبة في ذلك أخطاء وانزلاقات مبنية غالبا عن سوء تقدير، كما أنها خرجت في كثير من الملفات التي تدخلت فيها من عنق الزجاجة بعض مخاض، فيما لازالت شائكة في قضايا أخرى جارية.

أما ما عليه الكلام هي الوسائل الإعلامية العربية الأخرى التي أخذت الأحداث من زاوية المظلومين في ميدان تقسيم ممن رفض سياسات حزب العدالة والتنمية بعدما هوى بتركيا في قاع سحيق، بعنصريته ودكتاتوريته، ولكون تركيا ما عادت في مصاف الدول المتقدمة بعدما كانت كذلك لقرون وقرون، هذا هو التصور الذي يبنى في ذهنك بعد مشاهدتك لأقوالهم وتحليلاتهم من صغار في التمييز رغم كبرهم في السن.

لا أجد تفسيرات منطقية عن تلك التحليلات المجانبة تماما لواقع يرى رأي العين هناك، من مشروع يراد تجسيده في واحدة من أسوأ المزارات التركية أخلاقيا حاليا، فالتركة تركة من سبق، ومسح تلك الآثار الخليعة يستدعي فعلا السير فوق خط رفيع، فمحاربة الخمور ليس بالأمر الهين تماما، وبمرحلية التسيير لدى الحزب الحاكم قد حان وقتها باعتبار ردة الفعل التي ستكون قوية لا محالة، والخمور طبعا هي معركة ضمن حرب طويلة بدأت وستستمر!

أردوغان الذي أحرج -ولازال- الكثير من القيادات العربية أمام شعوبها من المنصفين، قد قال لشباب تركيا، إنه يريد شبابا واعيا لبناء الأمة التركية، لا مخمورا همّه إشباع نزواته، وقال لمن يعارض الأنظمة الجديدة: “احتسوا اللبن عوضا عن الكحول”، حينما وجد تمسكهم بالقضية كدفاعهم عن الماء، وكأن الخمر وأبنائها لديهم هي كل الحياة، والمتعظ من التاريخ يجد العلاقة بين اللهو والمجون في الحضارات وبين سقوطها وانحسارها، لذا فالحرب حاليا بين المعارضة التركية والقيادة حرب دين وفكر، وإن قلنا المعارضة فليست كل المعارضة إنما الأبرز منها، والتي لازالت تحكم سيطرتها على شطر هام من تركيا.

ميدان تقسيم لمن لا يعرفه فليسأل عنه، كيف هو الآن؟ وكيف كان سابقا؟ وكيف يريد أردوغان ومن معه أن يكون؟ المظاهرات جاءت مناهضة لمسح العلمانية وتجسيد الإسلام الواقعي لا المنحسر في الملابس والفتاوى على الهوى كما في أغلب الدول التي تدّعيه، وليس ذلك الشغب كما صوّر منعا لنزع 12 شجرة بدعوى حقوق الأشجار، فحزب العدالة والتنمية طيلة مدة حكمه قد غرس ملايين الأشجار!

لا أملك أن أدافع عن سياسة القيادة التركية في التعامل مع الأحداث ولا أدري إلى أين ستصل خاصة مع تعدد جبهات الصراع رغم أني متفائل بالسيطرة عليها، ولكن بمقارنة ما وقع هناك بما وقع ويقع كثيرا في الجزائر من احتجاجات ومظاهرات صارت حدثا يوميا، أجد أن من همّه بطنه وفرجه أقرب للكذب والتلفيق وتضخيم الأمور، فقد وقع وشهدت حدثا بعيني، ولما شاهدته مذاعا في إحدى القنوات اتهمت عقلي وذاكرتي، وتفحصت جواز سفري ومكان إقامتي لعلي قد شهدت حدثا آخر!

الغريب أن تجد من يهلّل للفوضى ويستبشر خيرا بالدمار في بلدان غير وطنه، وهذا وقع في تجارب ماضية، وتكرر الآن مع تركيا كذلك، حتى فسد معنى الربيع وارتبط بالحروب والفتن، ومن السخف أن ننعت كل تحرك في منطقتنا ببوادر ربيع قادم، فيما نغض الطرف عن ما يقع من وقائع أشد في بلدان أخرى، وفي كل ليس لنا الحق في ركوب الموجة والتهليل والتصفيق لكل من يحسن البكاء ويتقن لعبة الضرب والهرب!

الحسد والغيرة، النفاق والمداهنة، الترقّب في المنعطفات، والشماتة في من نجح وبلغ أهدافه شيمة الكثير من الأنظمة الحاكمة ووسائل الإعلام المأجورة لتدافع عن المجرم وتحارب الضحية، وما حال أحداث تقسيم إلا مثال يتكرر مئات المرات في عديد المناطق والأزمنة، والحكيم من تروّى وتأمل، وقبل أن ينجر مع التضليل يفكّر مليّا، فلا يعقل أن أصف وسيلة إعلامية بالتضليل طيلة العام، وحين تتناول قضية على مزاجي أكون أول المصدّقين!

لم أتناول الموضوع لأبقى رهين هذا المثال، إنما لأحلل القضية من زاوية إعلامية موضوعية، فإعلام المصالح قد طغى وتسلّط، وما يزيده كذلك هو الابتعاد عن مصادر العلم الحقيقية والانبهار بالبريق من الأخبار، والاتكاء على ما يريح من الطروحات والأفكار، فالقضية هنا قضية قوة وسيطرة، وإن راح العقل ضحية لفكر خاطئ زائغ صار تابعا مرددا للصدى، إن قيل له يمين سار لليمين، وإن قيد جهة اليسار لم يملك إلا أن ينقاد!

———————————-

(*) ألّف مهندس سياسة تركيا الحالية ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو كتابا يعتبر منهاج القيادة التركية في تعاملها مع الملفات العالمية بعنوان: “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية”.