ربما من الغريب في جزائر 2010 لما أخبر شخصا بتكريم العالِم، وتقدير العلم، وتشريف أهله، نظرا لواقع مرّ نعيشه، لكن أن تكون لاعب كرة، أو مغنيا أو رقّاصة -في بلد آخر-، أو ممثلا هاربا من المدرسة بعد رسوبك في امتحان الشهادة الابتدائية فالأكيد ستجد التقدير والمكانة وكل التسهيلات من وزارة قائمة بذاتها.

لكن مع كل هذا التشاؤم والصورة السوداء المنتشرة في عالمنا العربي ككل، توجد بوادر رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتحرّكوا بدافع شخصي وتأييد ممن حولهم، دون انتظار للوزارة الفلانية، ولا الوعود الهلامية، مثل معهد المناهج الرائد في الجزائر بفضل دعمه وتخصصه في البحث العلمي، بعدما كنا لا نسمع بهذا المصطلح إلا مترجما من اللغة الإنجليزية وبعدما كان مطبقا حكرا في الجامعات الغربية فعلا، وموجودا في برامج وزاراتنا حبرا على ورق!

يقال أهان الله قوما أهانوا علماءهم، فعلا فالعلماء مهانون لدينا، وتكريمهم يكون في الخارج فقط، ولكم أن تنظروا الكم الهائل من الطاقات المتربعة على عرش العلم في الجامعات الأمريكية والغربية والشرقية، لا لشيء سوى لأنه مهانون هنا، والإهانة ليس القصد منها عدم التكريم فقط، ولكن حتى المشاكل والعقبات التي تثار لهم بمجرد كونهم أعلم ممن معهم يبدون آراءهم ويرون أنها الصواب، ويحاولون التطوير والرفع من مستويات الأداء، ليأتي ابن كذا وكذا، ويقف في طريقهم، ويطلب من -قوّاده- أن يترصدوا لهم مشكلة ليدخلوهم في متاهة لا نهاية لها سوى بالهجرة، وهناك فقط يرتاح ذلك الموظف الذي تسلّم منصبه على أساس القرابة والنفوذ لا الكفاءة. (طالع قصة البروفيسور أحمد رواجعية الذي عاد من فرنسا ليرفع من شأن الجامعة الجزائرية ثم…).

أقيم أمس حفل تكريم الدكتور سعيد بويزري، رجل الصلح كما يعرف، شخصيا كنت أسمع عنه الكثير ولكن لم يكتب الله لي أن أكتشف كل ذلك الكم من الإنجازات والرصيد الميداني، فقد حمل أمانة ثقيلة، وراح يسير لهدف محدد صعب المنال، حقا كان من نوادر العلماء الجزائريين في عصره، ولمن يريد أن يعرف عنه أكثر، فعليه بالموقع الشخصي للدكتور، أوموقع فييكوس نت.

وسام تكريم العالم الجزائري بدأت فكرته صغيرة لكنها طموحة، ففي كل عام يتم ترشيح عالم جزائري على أوسع نطاق، فلا إقصاء لمجال، ولا تخصص، كل من يحمل الجنسية الجزائرية وتوفرت فيه شروط تضعها لجنة التحكيم، له الحق في الترشح، وفي هذا العام تم تنظيم النسخة الرابعة وتميزت بحضور أوسع من سابقاتها بفضل القاعة الأنيقة بدار الإمام بالمحمدية في الجزائر العاصمة.

أحسست بعد الحفل الذي كان لي شرف حضوره أنه لازال الأمل قائما في نهضة علمية قوية لعدة مؤشرات بادرة للعيان، ففي الجانب التنظيمي كانت المقاييس حاضرة، فريق عمل كخلية النحل كل بمهمته الدقيقة، شارة لكل صاحب مهمة، قاعة لاستقبال كبار الشخصيات، وأخرى للمعرض، وأخرى لتقديم الإكراميات المتنوعة، قاعة الحدث زينت بمنصة فخمة، وديكور فني مريح، دقة في الوقت والتسيير، تقديم سلس محكم فصيح، بشاشة وابتسامة تعلو الوجوه، برنامج أدبي فني راق، لا أدري إن كان وصفي هذا يفي بالغرض، فقد حضرت فعاليات أخرى تجد فيها من العفوية والطبيعي سوء التنظيم، وقلة التحضير، حيث تخرج آخرها منهكا متعبا، ولما تأتي لتقييم ما استفدت تجد نفسك تعلّق على السلبيات التي غطت الإيجابيات، حدث هذا معي أكثر من مرة!

الجميل أن الحفل يكبر إعلاميا كل عام، وبالذات هذا العام فقد جاءت طواقم تصوير مشكورة، جابت مقر الحفل، وحاورت الكثير من الحضور، وصورت كل دقيقة، حتى أن بعضها أحيانا أزعج الحضور باتخاذها لأمكنة غير مناسبة حيث تغطّي الرؤية وتحجب لحظات مهمة، وأذكر مرة في إحدى مناسبات الوسام الماضية أنه كان هناك شاب مكلّف بالتغطية الإعلامية من لجنة الحفل، وبينما هو يقوم بمهمته إذا مصوّر آخر يقف أمامه مباشرة وكأنه لم يرى الكاميرا ولم يره، ولما طلب منه ذلك الشاب بكل أدب أن يتنحى قليلا ويجد لنفسه مكانا آخر أفضل، إذا هو يبرز شارة التلفزيون الجزائري مقطّبا وجهه، ولسان حاله يقول: ألا تعلم مع من تتكلم؟ أنا من التلفزيون، لا أدري إن كلّفته الجزيرة أو BBC بالتغطية ماذا سيفعل! ربما سيتربع على أكتاف الحضور ليحظى بلقطات أفضل!

كنت أنتظر بعد كل تلك الضجة تقريرا تلفزيونيا مشبعا، أو على الأقل محترما، يناسب الحدث والمكرّم، وبعد يوم كامل من الانتظار اتصل بي زميل ليخبرني بوجود تقرير عن الوسام في نشرة الثامنة، قلت: وأخيرا… ذهبت للتلفاز وجهّزته ليسجّل الحدث، فاستغرب من حولي باهتمامي بنشرة اليتيمة على غير العادة، ولما أخبرتهم بتقرير حول الوسام، انتابهم الاهتمام مثلي فجلسنا نتابع كل صغيرة في النشرة، هذا خبر مبالغ حول التنمية الوطنية، وذلك حول كتب الطبخ في معرض الكتاب، ثم خبر حول الصحراء الغربية وفلسطين وهي سنّة مؤكدة في النشرة، ثم كوارث العالم وأخبار الاحتلالات، إلى أن تطرقت اليتيمة لتقرير حفل الوسام، وما إن هممت بالمتابعة حتى انتهى! لم يدم الخبر 15 ثانية، ولكم أن تجربوا قراءة خبر يستغرق تلك المدة !! فيما تطول تقارير التنمية المنفوخة ومهرجانات الفسوق لدقائق وأرباع الساعات وأكثر.

هكذا أجدني أمام واقع متناقض في بلدي، فالعلم يكرّم من جملة من الدكاترة وطلبة العلم وفقط، أو ما يسمّى بتعبير آخر المنظمات غير الحكومية، فيما يهان في التلفزيون الوطني، ولا أعتقد الأمر كذلك لو كانت القناة خاصة، نعم كرّم العلم عشية 4 نوفمبر، لكنه أهين قبله وبعده ولا يزال، وكأني أستحضر قول الشاعر إذ يقول:

لو أن ألف بان خلفهم هادم كفى**** فكيف ببان خلفه ألف هادم

مع ذلك أبقى متحدّيا متيقنا بأن لواء العلم في بلدي سيرفعه شباب مثلما رأيت وأرى يوم الوسام وفي كل يوم، فتغطية التلفزيون أو عدمها لا تقلّص من حجم المكسب، ولن تؤثّر في قيمة المكرّم ولا المكرِّم، ولست ممن يرفع الراية البيضاء بسهولة، فكفى بدولتنا أن تركت لنا حرية إقامة تلك التكريمات، وفتح مراكز البحث العلمي، لأن هذا لا نجده في كل مكان، وكي لا يتذرّع أي شاب بعدم وجود دعم من الدولة، فأقول لك أخي في هذا الشأن: إن كنت فعلا مهتما برفع مكانتك العلمية، ولديك الهمّة والنيّة الصافية الخالصة، فسيأتي ذلك اليوم الذي تبلغ فيه مرادك، اعتمد على نفسك ومن تثق فيهم، فكما أن المثبطات موجودة، كذلك التحفيزات متوفرة بأكبر مقدار، ولا يحلو الإنجاز بدون عراقيل ومشاكل.

لا تحسب العلم ثمرا أنت آكله****لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

أقدّم تهنئتي الخاصة للدكتور سعيد بويزري، ولمعهد المناهج، وبإذن الله سيكبر الحدث كل عام، إلى أن يرقى لتتسابق حول تغطيته كبرى المؤسسات الإعلامية، هذا الحلم ليس مستحيلا، ولا يبدو كذلك للمنظّمين والقائمين والداعمين الذين يكبرون وتكبر معهم الخبرة والتجربة عاما بعد آخر ونرجو المزيد.

مصدر الصورة: فييكوس.نت