يعتري الإنسان شعور متباين بين اللحظة والأخرى، ويتقلب مزاجه بين السيء والحسن في منظور مألوف لدينا، حتى صرنا نسلّم على سوء الشعور بالقلق وعلى حسنه بالطمأنينة والسكينة، لكن أليس علينا أيضا أن نثمن ونشيد بالقلق ونعيب الطمأنينة والسكينة؟

يقال: “الحاجة أم الاختراع” وظرف الحاجة عند الإنسان يأتي في قلق الذهن بالبحث عن حل لإشكال ما، أو سد رغبة لحاجة يطلبها، فبدون قلق لم نكن لننعم بأمور كثيرة اليوم، لذا فإن أردت الوصول لهدف فما عليك سوى أن تسلك مسلك القلق، ليس أي قلق وإنما “القلق المعرفي”، لذا فقد بدأت المقالة على خلاف ما دعا إليه “ديل كارنيجي” في كتابه: “دع القلق وابدأ الحياة” إلا أن السياق هنا مختلف.

صفة القلق ترتبط ارتباطا وثيقا بالاهتمام، فما إن تلقى مهتما تجد القلق ملازما له، فقط المطلوب أن يكون همه واهتمامه فيما يفيد لا في الفارغات، فكما أن هناك القلقون قلقا مفيدا، هناك من هم غير ذلك تماما، والمثال على ذلك ما حكاه لي صديق عن ما شاهد ذات يوم حينما كان في زحام حافلة نقل، بجانبه شابين ” قال أحدهما للآخر: أتعلم بأني قلق جدا! فبادره صديقه: مابك؟ قال: تقليعة شعري لم تعجبني هذه المرة لأني اكتشفت أخرى أحسن منها مباشرة عند خروجي من الحلاق فلان!” للأسف هذا مستوى تفكير وقلق فئة معتبرة تعيش بيننا، وهذه حال تتكرر باستمرار في نفس النسق بأمكنة مختلفة وعبارات متعددة فقط.

القلق المطلوب والمشروع أن نكون حاملي هموم حضارية، هموم وظيفية عملية، تؤدي إلى فعل حقيقي، لا قلقا لمجرد القلق فهذا مما يضر الصحة ولا يفيد في شيء، على خلاف أن  يكون قلقك المخلّص ولو بجزء ضئيل قد خسرت به صحتك بعدها فلا بأس، فأنت حينها لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل عليهم السلام حينما ضحوا بأعز ما يملكون ليبلغوا رسالة الله تعالى للخلق.

المعلّم الذي يركن آخر عمره لزاوية بيته متأثرا بأعراضه الصحية التي جاءت نتيجة مسيرة طويلة في سبيل نشر الفضيلة بين الناشئة أجره عند الله جزيل، وسوء حال صحته -عضويا أو نفسيا كان- في سبيل تبليغ رسالة ربه عز وجل، فما أسعده إن كان مخلصا، وطوبى له بعد القبول من الله عز وجل.

حدث يوما أن قال الدكتور سعيد بويزري في مداخلة له بحفل لوسام العالم الجزائري أقيم بمعهد المناهج في العاصمة مهنئا العالِم المتوج، وشاكرا جهود شباب المعهد وإدارته: “لا أدعو الله أن يخفف الحمل عنكم، وإنما أدعوه أن يقوّي ظهوركم لتتحملوا الثقل وإن زاد وتضاعف”.

القلق المعرفي وظيفة مستمرة يجب أن تلازمنا في كل وقت من أوقاتنا، بيوتنا وأماكن أعمالنا، هي ليست بنفس الدرجة بين كل الناس، حيث ترتفع وتيرتها وتنخفض حسب دور الإنسان في حياته، فقلق العامل يولد الأفكار المبدعة والحلول المفيدة لسير المؤسسة والفريق، وقلق المرشد يجعله دائم التفكر والتحليل في صياغة طرقه للدعوة والتبليغ، وقلق الإعلامي يجعله يحسّن أداءه ولا يركن لشهرة أو إغراءات مادية زائلة، كما يقلق طالب العلم تجاه أبحاثه وجهوده فتجده دائم الانكباب على المراجع والكتب، لا يكتفي ببضع سنين يطلب شهادة ليعلقها في جدار، أو يضمّنها ملف توظيف تحقيقا لاستقرار ضيق منشود، وحتى الزوجة يظهر أثر قلقها في بيتها من عدمه، فأسلوبها في التعامل تجاه اهتماماتها وتربية أبنائها وترتيب أجنحة البيت وصيانتها والمحافظة عليها كلها أمور محدِّدة.

كما تتجلى مظاهر نقص القلق في العمل واضحة حينما يكلف مدير ما موظفه بمهمة بسيطة ليعود إليه لم يحقق منها خطوة ولو بسيطة متذرعا بأعذار واهية استغرق في إيجادها وقتا وجهدا أكبر مما كان مفروضا أن يفعل مع القيام بالمهمة، هنا نكتشف أن هذا الموظف لم يرتق لمستوى القلق بعد، فلنعلّمه ونغرسه في شخصيته، وستتغير النتيجة إن تغيّر هو.

من صور فطرية القلق في الانسان وارتباطه بالاهتمام تصرف الأم أو الأب مع أبنائهما إذ يفسّر في أحيان عديدة بسلبية على خلاف طبيعته وإطاره، فالأم مهتمة بأبنائها وقلقة عليهم بالفطرة، إلا أن الابن أو الابنة حين يلتمسان من نفسهما قدرة على التحرر وتحمل المسؤولية ينزعجان من أسئلة الوالدين التي تأتي من قبيل الاهتمام والحب لا أكثر ولا أقل، إلا أنها تفسر بتفسيرات خاطئة لعل أهمها “عدم الثقة!”.

على الأستاذ أن يكون قلقا في مسلك التربية والتعليم، والمطلوب من الطالب أن يلزم القلق مشواره العلمي ومستقبله الوظيفي غير تارك الأمور للصدفة ولا واضعا مسيرته تحت تصرف أمواج محيط متلاطم لا يدري لها مسيرا ولا مصيرا، والواجب على المرشد أن يحترق في سبيل دعوته، كما على الإعلامي أن يقلق باستمرار ليُعمل عقله في نتاجه الإعلامي لا على سبيل الإثارة على حساب المبادئ، وإنما لكل منهما نصيبه دون إفراط ولا تفريط، وعلى كل عامل في أي مجال أن يستهلك جرعات من القلق في عمله حتى ينتج ما هو مميز ومبدع.

لا خير في سكينة وهدوء في غير موضعهما، ولا خوف من قلق واضطراب نافعين مؤديين لفعل بنائي يسهم في دفع عجلة الحياة للأفضل من أي زاوية من زواياها الكثيرة اللامتناهية، فبهذا تحلو الحياة وإلا فلا.