استفدت يوما من لقاء أحد الناجحين حينما سألناه عن أسباب تألقه، إذ أشار إلى مدى تعلّمه من أسفاره الكثيرة، واعتبارها مدرسة هامة جدا، وذكر أنه كلما برمج رحلة عملية إلى بلد ما، وحدد مدة العمل فيها، أضاف بعد ذلك بضعة أيام أخرى للاستكشاف والاستزادة مما يمكن استثماره والاستفادة منه في حياته.

ومن تلك اللحظة اعتمدت هذا الأسلوب لدي، وفي هذه الرحلة لم أشأ أن أفوت الفرصة، وأعود للجزائر بعد ختام الجامعة الصيفية مباشرة، بل برمجت مسبقا بعض الأيام كبرنامج حر أكتشف به عمق المغرب وأغوص في ما لم يتح لي من قبل، فحدث ذلك رغم ضيق الوقت وعدم وصولي لكل ما كنت أطمح، إلا أنها كانت تجربة قيّمة ومفيدة جدا، لها ما بعدها إن شاء الله.

بعد اختتام فعاليات الجامعة، وبعدما حانت لحظات الوداع، انقسمنا لفريقين، فريق إلى فاس وآخر للرباط، وقد كنت ممن اختار الرباط رفقة بعض الأصدقاء، إذ تفرقنا كل إلى حال سبيله بعد وصولنا، بينما بقيت مع صديقين جزائريين اتفقنا على أن نواصل معا وقد كان من المقرر أن يفارقنا أحدهما مساء، بينما أبقى والصديق الآخر لنبيت الليلة ونعيش جو العاصمة الإدارية ووجه المغرب الثقافي وإرثها الحضاري، وكل عاصمة تمثل للدولة الواجهة، وتقدم لزائرها الانطباع الأولي بالتبع.

دخلنا المدينة ظهرا، ونزلت بنا الحافلة أمام محطة “الرباط المدينة” فبحثنا عن فندق نترك فيه متاعنا ونستريح الليلة، فكان لنا ذلك بعد رحلة بحث في أرجاء المدينة القديمة المفعمة بالأصالة وأريج المغرب العريق، فالبساطة مرتمية في كل الأرجاء، والحيوية تملأ المكان وتقدح زناد الباعة ينادون بأعلى أصواتهم مؤشرين لبضائعهم للزبائن، ممن كان مغربيا وكثير من الأجانب ممن جاء سائحا أو كان مقيما.

خرجنا في جولة بين الأزقة قاصدين وجهة قصر الأوداية، المطل من جهة على المحيط الأطلسي وعلى نهر أبو رقراق من جهة أخرى، وفي الطريق كنا نتجاذب أطراف الحديث الذي لم يخل من المقارنات والإسقاطات، وتلك طبيعة الزائر لأي مكان كان يسمع عنه فيسّر الله له فرصة النظر والمعايشة عن قرب.

من أجمل ما شد ناظري في الرباط وأنا أتجول في أحيائها تلك المحلات الصغيرة المكدسة بالحرف والملابس المغربية الأصلية الأصلية، إذ تلمس فيها ذاكرة شعب بأكمله، وترى في جنباتها أفلاما ووثائقيات تحكي قصتها، فلا تستغرب إن سرحت بعيدا عن واقعك وأنت تتأملها وتركز فيها، فهذا تراث وتقافة وجب الحفاظ عليها من أهلها وأبنائها فقط، ولا أحد غيرهم سيفعل!

وكمشهد مألوف في المغرب بين ما رأيت من الباعة في تلك المحلات، امرأة كبيرة شيبتها السنون، تجلس في كرسيها وتخيط تلك الفساتين الثمينة، هو مشهد لم أعتد عليه حقيقة، خاصة أني لما سألت إحداهن في محلّها عن السعر أجابت بكل ثقة 1100 درهم، فأعدت النظر فيها بينما ذهني منصرف لتحويل العملة وعلامة الدهشة بادية عليّ، فواصلت تقول: يمكن أن أساعدك في الثمن لأخيط لك واحدة فكل هذه الفساتين لأصحابها، وأنا أعمل حسب الطلب، واعلم أنها يدوية الصنع كليا!

خرجت من محلها وأنا أهز رأسي وأستغرق في تفكير عميق عن ذلك الموقف، فالمرأة ببضع كلمات قد حاضرت في أعمق دروس التجارة وقدمت دليلا محسوسا لا منطوقا عن قيم الإحسان والإتقان، فسألت الله أن يفيض عليها من فضله، ويلبي لها كل مطلب ومسألة، ومن محلها دخلت محلا آخر فبدأت هناك قصة أخرى…

رجل في الخمسينيات من العمر -على ما يبدو- يبيع الملابس في محل صغير، سلّم علينا بحرارة وسألنا عن بلدنا وما إن قلنا الجزائر حتى رحّب وفرح كثيرا، وهذا حال كل من التقينا بهم، سألنا عن أحوالنا في المغرب وهل الأمور طيبة، وكيف حال الجزائر والجزائريين، وتأسف لحال البلدين من القطيعة في المستوى الأعلى، بينما حال الشعبين على أفضل حال، فقد استرسل مستذكرا أياما لا تنسى كما وصفها، فحسبه كان تعامله بصفة غالبة مع الجزائريين، يقتنون منه السلع بالجملة، فازدهرت معهم تجارته وفاض الخير بهم.

إلى أن أوصدت الأبواب فنام السوق بتعبير التجّار، وصارت زيارة أي جزائري له مجرد ذكرى جميلة، ومع أن التعامل التجاري لم ينقطع كليا إلا أنه نزل لأدنى مستوى بل يكاد يكون نادرا، وهنا تفطنت لملمح مهم هو أنّ على الإنسان أن يترك الأثر الطيب والذكر الحسن في كل منزل ينزله ومقام يسمو إليه، فكيف نفسّر ترحيب هذا التاجر البسيط لي كجزائري لمجرد أن هناك جزائريون لم أعرفهم ولم يعرفوني قد مهدوا لي ولغيري الطريق بحسن تواصلهم وطيب أخلاقهم وجدية معاملاتهم.

الليل كان كالنهار نشيطا حيويا، ترتسم ابتسامته في محيا الناس جلية، هكذا الرباط تترجم عفويتها تعاملا طيبا وراقيا على لسان وجوارح أبنائها، فرغم صعوبة ظروف الحياة كما وصفها أهلها مرارا، إلا أن حسن النية وصفاء القلب ونقاء السريرة هي ما يطفو للسطح ويغمر الأجواء عبيرا وأريجا، ولو استرسلت في وصف ما وقفت عليه من ملامح ومحطات تستوجب الكتابة عنها لما خلصت لخاتمة.

أكتفي بهذا القدر اليوم، وأضرب لكم موعدا للدار البيضاء في العدد المقبل من الخواطر المغربية، لكم تحياتي وسلامي.