سويسرا تلك الجنة التي يحلم كل إنسان بزيارتها والاطلاع عن قرب على سرّ كل تلك الهالة والسمعة الطيبة التي حظيت بها ولا تزال، ففي الاخضرار والنقاء والأناقة في أحاديثنا نستدعي سويسرا كمثال عفوي بديهي، زيادة على قوة العلامات التجارية العالمية التي تزخر بها كالساعات المتقنة، وأنواع الشوكولاطة، وكذا مقرات المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة واليونيسف والفيفا.
كان الدخول إلى سويسرا سلسا كما حدث مع الدول السابق ذكرها في الحلقات الماضية، فلم نشعر بمغادرة فرنسا إلا بأعلام سويسرا البيضاء الحمراء، ولكن قبل ذلك كانت البوادر واضحة في مدينة آنسي الحدودية مع فرنسا، فالطبيعة الخلابة بدت جلية ومختلفة قليلا عمّا رأيت في فرنسا، وكأنّي بريح سويسرا تفوح بكل عبق وجمال.
دخلنا إلى سويسرا عبر الطرق القروية الصغيرة متعمدين تفادي الطرق السيارة التي تفقدنا الحس السياحي وتدخلنا في روتين السفر، وهذا ما يتقاطع مع أهدافنا من الرحلة وكذا ضيق الوقت، فكل دقيقة منها نريدها مختلفة عمّا سبقها، وهذا ما وجدناه متاحا حينما اعتمدنا على تقنية GPS واخترنا طرقا بين الجبال تمر بالقرى والأرياف السويسرية الآسرة.
في طريقنا استوقفنا جسر أنيق للمشاة، فنزلنا لمشاهدته والتمتع بمنظره سواء في جودة إنجازه فقد كان حديث التدشين، أو في جمالية موقعه فهو يربط قمّتي جبل بينهما وادي سحيق بأشجار طويلة لكنها تظهر صغيرة من الأعلى، وأكثر ما شد انتباهي واهتمامي تلك اللوحة التي كانت بجانبه وقد علّقت فيها معلومات تقنية عن المشروع لم أعهد رؤية بعضها من جهة، ولم أألف احترام ما جاء فيها بدقة، كتاريخ بداية الإنجاز، ونهايته، والجهات الممولة له، ونسبة كل جهة من التمويل، مع بيان التكلفة الإجمالية أيضا.
الرحلة كانت مبرمجة إلى مدينة جنيف العريقة والتي تدعى بعاصمة السلام وهي ثاني أكبر المدن السويسرية، فحينما وصلنا إليها كانت فوق التوقعات من حيث الجو الربيعي بزخات المطر الخفيفة المتواصلة، فانتصبت مبانيها التاريخية شامخة تحكي قصة أوروبا القديمة والحديثة في تمازج فريد.
فوق جسر نهر الرون الذي يقسم المدينة إلى نصفين كنا قد مررنا بالسيارة مستمتعين، فرأيت إشعارات وإعلانات عن إقامة سباق ماراطون اليونسيف السنوي في الغد (Harmony Genève Marathon for Unicef)، وكم تمنيت حضور هذا الحدث لولا التزامات الرحلة.
كنا نسير ونبحث عن موقف للسيارة كي نحظى بالمشي قليلا في المدينة، فتتبعنا لافتات تشير إلى مواقف السيارات لنجد أنفسنا أمام موقف يضم مئات السيارات مجهز بأرقى المعايير العصرية، والأجمل في كل ذلك أنه قد شيد تحت النهر، فمن خارجه لن تشعر بوجوده تماما، وفي داخله لن تشك ولو للحظة أنك تحت أطنان من المياه والبواخر قد تمر فوقك، فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.
في أرجاء المدينة الهادئة كانت هناك كل مظاهر البذخ والترف من جهة، وكذا معاني القيم والالتزام الإنساني بمجموعة ضوابط يفرض تنفيذها بقوة القانون أيضا، ومن تلك اللفتات البسيطة معنى العظيمة أثرا مثلا احترام قوانين المرور، كأن نلمس بوضوح أولوية المشاة على أصحاب السيارات إذ يكفي أن تهمّ على وضع رجلك الأولى في ممر المشاة لينكب السائق على مكابح سيارته.
ومظهر آخر من مظاهر المدينة التي شاهدتها في برنامج المبدع أحمد الشقيري “خواطر”، حينما عرض تجربة صندوق الثقة، فقد رأيت عيانا صناديق الجرائد مع علب لوضع النقود ليتسنى لأي شخص اقتناء نسخته دون رقيب أو بائع.
بعد لحظات رائعة في جنيف ومع وقت المغرب حان وقت المغادرة نحو ألمانيا، فاتخذنا طريق الأرياف كعادتنا فمررنا بالقصور الفارهة والبسيطة في روعتها وجمالها، ثم بالحقول والأراضي الفلاحية الشاسعة، ثم في جزء من الطريق دخلنا الطريق السيار فرأيت تلك الجودة الفائقة في إنجازها، خاصة أنها كانت في منطقة جبلية وعرة، فكان مرورنا ليلا عبر زيوريخ، وللأسف لم نكتشفها في الصباح، وتركتها لفرصة قادمة إن شاء الله…
في الحلقة المقبلة إن شاء الله سأتناول فيها اليوم الأخير للرحلة في ألمانيا…