منّ الله علي بلحظات تاريخية في بلاد أحببتها وأحببت أهلها، أحييت أيضا تاريخها وجزءا من حاضرها، وأملي بمستقبل مشرق فيها إن شاء الله، هذا الحب حقيقي وليس مفتعلا، مبني على ما يؤسسه ويعزّز قدره، فقط أعترف فيه بعدم حصريته، فأحب أمكنة غيرها كذلك، ولكن أعود لأقول: لتركيا مكانة خاصة لدي…

هي خواطر أود بثها من خلال رحلتي إلى دولة تركيا، وبالضبط عاصمتها السياحية اسطنبول (İstanbul)، ففي كل زيارة لمقصد فيها، كانت لي تأملات بيني وبين نفسي، أود مشاركتكم إياي فيها، فالأكيد فيها ما يحتاج لتحليل أكثر، كما فيها ما يدعو للتفعيل، فلا خير فينا إن نحن رأينا نورا ولم نستنر به، أو لاقينا حكمة ولم نستلهم منها ما يفيدنا.

هي خمس خواطر في المقالة الأولى، مما استوقفني وأخذ اهتمامي، ليس بمعنى ألا يوجد أفضل منها، إنما لكل تجربة إنسانية عيوبها وزلاتها، ولست ممن غرضه السياحة مستهلكا فقط، لأني أؤمن إيمانا راسخا أني في وطني كل الخير، كما في كل الأوطان، إلا أن هناك ما ينقصنا لنستكمله، ولديهم ما لم يبلغوا ليتموه، فلنأخذ من الظواهر ما يفيدنا ونذر الباقي.

وقتنا ثمين للبناء وليس لمجرد نقل الصور الجميلة والتأثر بها ظرفيا ثم سرعان ما نغرق في أوحال مشاكلنا دون تفعيل أو تحسين، كما لسنا مخولين -بقصر نظرنا- للتحليلات المفرغة من قيمتها الحقيقية، فنتهم ونسخر وحتى نحتقر، ونحن في أمسّ الحاجة لمن يشفق على حالنا.

إلى الخواطر:

  • تركيا منارة الدولة العثمانية قديما، وضحية الدولة العلمانية من عهد قريب، بدأت مسيرة جادة في مسح تلك المظاهر الخادعة من المدنية والتحضر بمعناهما السطحي الساذج، بفضل رجالها المخلصين، ممن يعملون في جبهتين، أولاهما تغيير الصورة النمطية القديمة وثانيهما العمل على التنمية وتحقيق وعودهم للشعب، باختلاف أطيافه ومذاهبه الفكرية، فالحمل ثقيل لا محالة، إلا أننا من خارج الظاهرة نغفل عن هذه النقطة ونعتبر كل مظهر مما يتنافى مع ما يعلن عن تركيا الإسلامية سببا للتهجم عليها، فبداية علينا أن نستحضر السياق التاريخي والزمني، ونفهم الصورة من كل جوانبها، نثمن الجهود، وندعو الله التوفيق.
  • في جولاتي لمزارات اسطنبول السياحية، التقيت بتجّارها وموظفيها ومواطنيها باختلاف مشاربهم، طبعا من حوار لآخر، ومن معاملة لأخرى يمكن أخذ لمحة شاملة عن طبيعة المعاملة وحتى طريقة التفكير في بعض القضايا، كعلاقتهم بالأجانب ممن يأتي إليهم، فما أخذته كانطباع جلي أن الأتراك شعب مرهف الحس، فنّان بدرجة عالية من المهارة وحسن الانتقاء، أكثر مما ألفنا في بيئتنا على الأقل، فديكوراتهم، سلعهم، مبانيهم، ملابسهم، أخلاقهم… في كل منها تلمس حضارة أصيلة، وإن شابها بعض الاستيراد لكنها لو تكلمت لحدثتك بعطر تركي عريق.
  • في نفس سياق الهوية والحضارة، فالملاحظ أن التركي لا يستعمل لغة غير لغته إلا نادرا جدا، وهذا ما يفسره البعض بالتعصب، بل يتهمهم آخرون بكرههم للغة العربية أصلا، وهذا مجانب تماما للمنطق بعدما تبينت السبب، فأصل الحكاية أن عهد العلمانية الذي مضى على تركيا قد مسح هويتها الإسلامية عن آخرها حتى كادت تندثر تماما، وألغى كل ما يربط الإنسان التركي بخارج الدولة، فغرس مفاهيم دخيلة عن أصل الأتراك، عن طريق المدارس ووسائل الإعلام، بشكل عفوي أحيانا وبطرق ردعية أيضا، وللمهتمين فعلا أنصحهم بالبحث أكثر في المسار التاريخي لتركيا.
  • ميزة أخرى رأيتها جلية في الإنسان التركي، كونه يعتز بوطنه لحد كبير، ومن مظاهر ذلك الفخر والاعتزاز تفضيله وبقوة لمنتج بلاده دون ما يأتي من الخارج، وبدعم من أنظمة الدولة الحالية التي تتناغم مع واقع شعبها وتساير طموحاته وتفكيره صار المنتج التركي أرقى مما يستورد، وأصبح الطلب الكبير على البضاعة المحلية سواء للزبائن الأتراك، وحتى التجار من مختلف دول العالم، وللعلم فلم يكن الأمر هكذا من قبل، لكن المعادلة انقلبت بفعل تحديات وجهوذ بذلت دون شك.
  • الخاطرة الخامسة والأخير لهذه الحلقة تتمثل في سهولة الحياة في تركيا لحد بعيد، ولو دقّقت وكنت منهجيا أكثر أقول بلدية اسطنبول، ففيها من الخدمات الموجهة للمواطن أو المقيم أو حتى الزائر ما لا يسع كتاب كامل لسرده، كلها تصب في خانة تيسير الحياة وتسخير كل الوسائل لخدمة الإنسان، فبلدية اسطنبول التي يقطن فيها ما يقارب 13 مليون إنسان (خامس أكبر مدينة في العالم في عدد السكان)، ورغم جغرافيتها الصعبة نسبيا إلا أنك تجد في وسائل النقل فقط كمثال ما تحترم به لأجلها من فكر وأنجزها ولازال يتعهدها بالرعاية المستمرة.

قمت بتقسيم الموضوع بهدف ايفاء كل خاطرة مما ذكر حقها ومستحقها من التحليل والنقد، وستتلو هذا الخواطر خواطر أخرى إن شاء الله، هناك الكثير مما يجب أن يقال هنا، ويسرني استقبال أسئلتكم حول الموضوع لأجيب عنها فيكون الموضوع تفاعليا.

خلاصة القول إن اسطنبول مدينة تنبض حياة، وحضارة وثقافة إسلامية متجذرة، ففي لحظات مؤثرة عشتها وقت الأذان في الساحة بين جامع السلطان أحمد (الجامع الأزرق) ومتحف آيا صوفيا الذي تجري فيها آخر اللمسات ليعود جامعا كما كانت قديما خلال عام أو عامين إن شاء الله، هناك تستحضر عمق وعزة الإسلام حينما كان دولة فعلا، وتشعر ببشاراته الأولى جلية في تركيا الحالية، وإن أحسست واقعا أن تركة النظام العلماني لازالت تجر آخر أذيالها المتشبثة بقوة لترحل دون رجعة إن شاء الله!

  • تتواصل المقالات حول الرحلة التركية… فتابعوني!