خلال الأيام الماضية بحلوها ومرّها (*)، كنت أطالع كتابا شيّقا وجدت فيه الكثير من السّلوى والعزاء فضلا عن الفائدة والمتعة، ودائما ما اعتقدت أن قراءة الكتب ضمن سياق تجعل القارئ يربط المعلومة تلو الأخرى مستوعبا العديد من الظواهر التي تمرّ عليه وتتركه أمام أسئلة محيّرة تأخذه ذات اليمين وذات الشمال، هذا ما وقع معي بالضبط وأنا أقرأ كتاب ذكرياتي ومذكراتي للأديب الشاعر الجزائري محمد صالح ناصر.

هو كتاب قيّم غزير المحتوى بما مرّ عليه الكاتب طيلة حياته الحافلة بالمغامرات والمفارقات، فقد ذاق الملذّات وتكبّد الصعاب، وعاش رغد العيش وما سلم من المواقف القاسية ضريبة حبّه للتميّز وسعيه ليكون محسنا في كلّ ما يأتي وما يذر، وهذا في حد ذاته درس من الدروس التي فرضت عليّ احترام الرجل لصدق إحساسه، ونبل أهدافه، وطموحه في كسر الكثير من الحواجز الوهمية التي كثيرا ما وضعها غيره لنفسه تارة، أو وضعت له من بيئة ألِفت مسارات معيّنة في الحياة تارة أخرى، ولا تكون بالضرورة دائما صائبة.

قليل هم المبدعون الذي يفكّرون خارج المألوف وأعتقد أن الدكتور محمد ناصر بثورته على الكثير من المفاهيم السائدة في فترة شبابه من أولئك القلائل الذين يغيّرون الكثير في حياتهم ويكونون دلائل خير لمن بعدهم ليقتفوا أثرهم ويسلكوا سبيلا ما كانت لتتيسّر أمامهم لولا أن خاض غمارها -مخاطرة- من سبقهم، وأنعم بها من سبيل حينما تكون سبيل طلب العلم النافع للأمة، فخبرة الدكتور محمد ناصر مثلا مع البحث العلمي والكتاب تأليفا وتحقيقا وحدها تعدّ مدرسة وجب البحث فيها ودراستها بعناية.

أهمّ ما يلمس لمسا من صفحات الكتاب تلك القيم المفعمة بالحبّ والصدق، فقد تناول الكاتب مراحل حياته بالأفكار تارة وبالأشخاص تارة أخرى، دون إغفال جانب من وصف بعض الأشياء والوسائل من حوله مما كان له الأثر الطيب أو السيء في حياته، وكذا الحوادث التي أثّرت بشكل أو بآخر في اختياراته ومحطّاته منذ الصغر إلى مرحلة الشيخوخة والمرض المزمن راضيا فيها جميعا تمام الرضا بقضاء الله وقدره.

يجد القارئ نفسه أمام شخصية مرحة، عاشت طفولة بريئة عفوية في مجتمع حرص كلّ الحرص على تنشئة جيل قرآني ربّاني فعّال، من أضيق بيئة إلى أوسع الآفاق، زادتها جرأة الشاب محمد وحماسته المتقدة، التي جعلته لا يرضى إلا بالريادة، فكان مشوار طلبه للعلم خاصا جدا، توّجته زيارته لبيت الله الحرام دون سنّ العشرين ومفاجآت تلك الرحلة التي رسخت في ذهنه، بفضل الله وبفضل مرافقيه المخلصين آنذاك.

والجميل في قصة النجاح هذه تلك التفاصيل الدقيقة عن بيت الطفولة وأزقّة وواحات مدينة القرارة العريقة بولاية غرداية، ولحظات الأفراح والأحزان العائلية، بأسلوب أدبي قصصي راق، فلم تخل الحياة حينئد من الحميمية في العلاقة الأسرية والتربوية وحتى المجتمعية عامة، فالكل مسؤول عن الكل، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

دائما مع مشوار دراسته، فلم يخف الأديب الشاعر عاطفة الوفاء تجاه كل من كان له عليه فضل ولو بأبسط لفتة، فقد أورد الكثير من الأسماء ممن توفّوا رحمة الله عليهم، وكذا ممن لا زال على قيد الحياة، فظهرت عاطفته جياشة من خلال الأوصاف التي أطلقها عليهم والمراتب التي رفعهم بها في صفحات الكتاب من حين لآخر، ولعلّ أهمهم والدته ووالده اللذان كانا فعلا علامة فارقة في تكوّن شخصيته وتبلور أفكاره وبناء تصوّره على الكثير مما لاقاه ويلاقيه في حياته.

حضور الإنتاج الأدبي والأسلوب الأكاديمي كان لافتا أيضا في ثنايا الكتاب، ففي كل محطّة من محطّات حياة المؤلف سواء في بداياته بمدينته القرارة ومسيرته في مدرسة ومعهد الحياة وكذا أفواج الكشافة أو حياة الدراسة الجامعية بالقاهرة أو الجزائر العاصمة أو رحلاته إلى أوروبا، بل وحتى سنواته عمره الذهبية بسلطنة عُمان، تجده في كل مرة يؤرّخ الحدث بقصيدة يحيل إليها القارئ إما إلى الديوان الذي صدرت فيه، أو الملحق، وكل قصيدة بعذوبة معانيها وصدق جنباتها تحكي قصصا وتروي أحداثا تبقى وثيقة تاريخية للأجيال، مع ما أرفق أيضا من المراسلات النثرية التي وردت إليه أو أرسلَها من عنده.

ما كنت لأختم المقالة لو استرسلت في استخراج الدرر المكنونة من الكتاب، ولكنّي أتوقّف هنا تاركا مجال الاستزادة منه للقارئ، شاكرا الكاتب شكرا خاصا، فقد ألهمني الكتاب أيما إلهام، وضممته للكتب التي أعود إليها كلما احتجتها لأعتصر منها جرعة من الإقدام والتضحية في سبيل تحقيق هدف منشود، والشكر لمن قام على إخراج الكتاب في حلّته الأنيقة.

صدر الكتاب عن دار ناصر بالجزائر العاصمة، في جزئين بأزيد من 950 صفحة، يحكي قصة حياة الكاتب في الفترة (1357 هـ – 1435 هـ) الموافق (1938م – 2014م)، نسأل الله الشفاء والبركة في العمر للمؤلف المحبوب، وأن يجعل كل حرف خطّه وفكرة طيبة بثّها في ميزان حسناته، آمين.

(*) كتبت هذه المقالة بمناسبة ما ألم ببيتنا العزيزة. [وداعًا يا دارا عزيزة آوتنا!]