ذات مرة كنت أنتظر دوري في قاعة إحدى مراكز تسوّل التأشيرة التي ابتلينا بها في بلد العزة والكرامة، وبما أن قوانين تلك المعاملة تقتضي إطفاء الهاتف والنظر للسقف أو الاستمتاع بوجوه المنتظرين أمثالي أو الدخول في حوار مع من يلينا أو يسبقنا في الدور.

حوار يغلب عليه التأسف والتذمر من وضع البلد وسرد مغامرات الأسفار السابقة ولا يخلو من نصائح وتوصيات لما سيأتي من رحلات… يتخلل ذلك بث الأمل في الحصول على التأشيرة والدعاء بالخير والفوز بنعمة الخروج نحو أي وجهة غير هذه الحفرة.

قمت حينها بإحضار كتاب أقرأه ليطوي عني تلك الساعات التي سأستهلكها مغامرا دون أية ضمانات.. وأول ما قمت بسله من المحفظة التفت إلي شاب في مثل عمري تقريبا كان يجلس بجانبي وابتسم ابتسامة لطيفة ما إن التقت عيني بعينه، وسألني عن العنوان فأريته له، ثم سأل ثانية عن محتواه فهممت بشرحه ثم قاطعني.. ألا تقرأ القرآن الكريم أو الحديث الشريف أفضل لك من تضييع الوقت مع هذه الكتب؟ “والله نحير فيكم خو” اختفت ابتسامتي وحل محلها تركيز وترقب لما سيأتي من كلامه مع إلقاء نظرة سريعة ثانية على شكله كشاب متحرر متنور لا يترجم ولا يتطابق مع ما يقول.

واصل قائلا: لقد زرت الكثير من بلدان العالم و “مايخلعني حتى واحد”… أشفق كثيرا على من يضيع وقته في المطار أو الطائرة بقراءة مجلات أو كتب لا تفيد في شيء بينما كان عليهم قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

!كل هذا وأنا أرى ابتعاد وجهة نظرينا وتباعدها.. سألت نفسي: من أين أبدأ معه؟ ومن أي مدخل؟ علي أن أرقى ليقينه فيما يقول أولا… ثم أسرد عليه رأيي ونظرتي للموضوع… استجمعت قواي وحاولت استحضار كل ما أملك من هدوء وحجة عقلية قبل أن أخطئ بقول قد ألفظه مندفعا…

قاومت ما يفور بداخلي من رغبة في محاكمته على تناقضاته التي يعيشها وتناقضات بقعتنا التعيسة التي تجر أذيالها خلف الركب…أخيرا اكتشفت الجواب… أخبرته أن الحكمة ضالة المؤمن وهو أحق بها أنى وجدها… بادرني بالدعاء بالهداية وطلب مني بكل أدب ولباقة أن أمتثل قوله… عدت لكتابي أقرأ كلماته دون أن أعيها… وأتصفح أوراقه دون أن أدرك ما فيها… العين في واد والذهن في واد آخر… إلى أن حان دوري وقمت…