لو سألت أي شخص عن اسم “سنان” لكانت إجابته سريعة بديهية عن كونه بطل سلسلة رسوم متحركة رافقتنا صغارا، كلنا نحفظ أغنية مقدمتها، هي ليست الإجابة الصحيحة فيما أقصد طبعا، فـ “سنان” هنا رجل حقيقي كما ورد في العنوان… لا تقلق فحتى أنا لما سئلت كان جوابي مثلك!
لاشك أن المشاهد لمآذن تركيا الشامخة ومساجدها الراسية يستحضر تلك القوة والدلالة على فترة زاهية من فترات عزة الإسلام، فالقوة السياسية حينها ترجمتها قوة اقتصادية ومعمارية، وفوقهما جميعا طفرة علمية كان لها الدور الفعال في الرقي بالدولة العثمانية لقرابة ستة قرون (1299-1923).
لكل مجال رواده، ولكل تخصص رجال برعوا فيه وتركوا بصماتهم، منهم بالكتب والمؤلفات، ومنهم بالرجال والعلماء، ومنهم بالمباني والآثار الشاهدة على تاريخ ناصع شدوا أوتاره، وعزفوا فيه أجمل الألحان، فواجب على كل شاب وطالب علم أن يبحث في صفحات التاريخ مستنيرا راميا لاكتشاف من صنعوا تخصصه، ووضعوا أسس علم يدرسه، مهما كانت بلدانهم وأزمنتهم التي عاشوا وما أجمل أن يكونوا مسلمين.
علماء مثل ابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد، والرازي وغيرهم كثير، كلهم مما نفتخر بهم، فهم ممن سطع نجمهم في عصور نهضة بلاد الإسلام، مع أننا للأسف نكرر “مصطلحا” جائرا ونكتب حوله بكل جرأة، اتباعا وتقليدا دون دراسة وتدقيق تمثل في “القرون الوسطى”، أو “عصر الظلمات” وربطناها بالتخلف والظلام لعهد الإنسانية كلها، إنما الأصح أنها كذلك بالنسبة لأوروبا والغرب فقط، أما عنا فهي قرون الحداثة والتألق والتنوير، وكم من مصطلح على هذا الشكل هضمناه بكل راحة غير آبهين بحقيقته وكنهه الأصليين.
ولربما مما لاحظت أننا نركز على علماء الإسلام –على الأقل في عصرنا هذا – من خلال تفوقهم في علوم الدين والشريعة وهذا أمر جميل، إلا أننا نغفل كثيرا التخصصات الأخرى التقنية منها خاصة، وهذا واقع لا مفر منه، حيث أصبحنا نربط كصورة نمطية أي تطور في التقنيات الحديثة بالغرب، وفي أحسن الأحوال البيئة هناك، أي يمكن أن يكون العالِم مسلما ولكنه نشأ وتكوّن وبرز هناك، وهذا واقع مر نعيش فيه إلا أنه ليس الحقيقة المطلقة.
أتناول اليوم شخصية فذة تركت بصمتها عميقة في تاريخ الإنسانية، هو عالم مسلم طوّر أبحاثا وجسّدها عمليّا، بها صنع ألغازا أخرى بينما كانت حلولا له، فكان حقا ظاهرة من الظواهر، لم ينل حظه ونصيبه من التعريف رغم كل ذلك، هو العالم المسلم “خـوجه مِعمار سِنان آغا” “Mimar Koca Sinan ibn Abd al-Mannan”، المشهور بـ: “ميمار سنان”.
هو من رجال تركيا، عاصر حقبة الدولة العثمانية، وحفر اسمه بأحرف من ذهب، عاش بسيطا ومات كذلك، تفوّق في علم الهندسة المدنية، فكانت إنجازاته لحد اللحظة خير شاهد على ذلك، مساجد وجوامع، قباب وصوامع، حدائق وقصور، جسور وقلاع… كل زائر لتركيا حاليا يعود منها منبهرا بما صنعت أنامله، وأبدع عقله.
ولد ونشأ في قرية آغيرناص التابعة لولاية قيصرية في الأناضول عام 1490م كان نشأ مسيحيا ثم أسلم وعمره 23 عاما، عاصر حكم أربعة سلاطين عثمانيين هم: سليم الاول، وسليمان الثاني، وسليم الثاني، ومراد الثالث، ولمع نجمه في خدمة الجيش حينما بنى جسرا على نهر بروت في ظرف قياسي قدّر ب 13 يوما فقط!
عاش سنان حياة زاخرة بالإنجازات، ونال بها تقدير السلاطين، فعُين كبيرا للمهندسين في الدولة، وقد كان وراء تخطيط وهندسة وحتى الإشراف على تشييد عدد مهم من القصور والمدارس والمستشفيات، وبنى سبعة أنظمة ري لسد حاجيات اسطنبول من المياه في ذلك الوقت، كلها بطابع معماري خاص يوحي للناظرين إليه برمزية عميقة ودلالات شاهدة على من مروا من هناك ذلك الزمان.
طوّر المهندس سنان نظاما فريدا لتوزيع الصوت في المساجد الضخمة التي بناها، فلم تكن هناك مكبرات ولا تقنيات توصل صوت الأذان وخطب الجمعة ودروس الوعظ حينها، فلم يثنه هذا النقص في ابتكار أنظمة تضمن سماع كل ما يقوله الخطيب داخل المسجد، والمؤذن حينما ينادي للصلاة من مسافات بعيدة بفضل تقنية القباب الصغيرة والكبيرة.
كمثال على ذلك كان مسجد السليمانية قد شهد تجربة تلك التقنية قبل ثلاثمائة عام على اختراع أول مكبر للصوت، فقد كانت القبة الكبيرة بقطر 26 متر تلعب دور مضخم الصوت، تقوم بامتصاص انحراف الأمواج الصوتية المنخفضة وتعكسها إلى كل أنحاء المسجد، بينما تعكس القباب السبعة والعشرون أمواج الأصوات المرتفعة بعد امتصاصها، ويحدث بذلك التمازج نوع من الترتيب والتوزيع الجيد للصوت، طبعا ليس بمستوى مكبرات الصوت ودقتها، وإنما كحل إبداعي رائع يصلح لتلك الفترة.
وميزة أخرى كانت في طريقة عمل سنان في إرساء ثقل القباب الضخمة ذات الوزن الثقيل، فقد عهد المهندسون في أوروبا على حملها فوق جدران البناء، بينما سنان كان يركز الثقل الأساسي على اللوح نصف الدائري للقبة بالإضافة للدعامات الحاملة مما أتاحت له هذه التقنية إضافة نوافذ جميلة على محيط القباب تساهم في إضاءة المسجد وتوزيع النور عليها بطريقة ذكية تحتاج لتحليلات أخرى أوسع أيضا.
المسجد عند سنان لم يكن مجرد مكان للعبادة والصلاة، وإنما مركزا متكاملا للنشاط الاجتماعي، ففضلا عن المصلى نجد مدرسة وحماما بخاريا، ومستشفى، ومطبخا للفقراء (التكية)، والخان، وهو ملاذ مؤقت للتجار مجهز بوسائل الراحة، فقد كان المسجد عند سنان مركزا للعبادة والتعليم والثقافة والخدمة الاجتماعية…
هكذا نجد أن سنان لم يكن مجرد مهندس يرصّ الأحجار ويمزجها بالماء ليرفع أبنية تؤدي دورها الضيق فقط، إنما كان مبدعا بحق، فقد تمسك بنظرية تخطيط المدن في فن العمارة الإسلامية وعمل لأجلها، لاح بناظريه بعيدا على صفحات المستقبل، مبتغيا بذلك العزة لدينه، ناويا رضا الله في كل مسيرته الرائدة الثرية، تاركا احتراما وتقديرا ممن استفاد منه وتأثر وأعجب بما ترك، وهذا “هـ. كلوك” العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا قد قال فيه: “إن سنان يتفوق فنيا علي مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية”.
على الرغم من تكريمه وتقريبه من حاشية السلاطين، إلا أنه عاش حياة البساطة والتواضع دائما، توفي في عمر 98، رحمه الله، فقد كان يقول في حياته: “إنه لم يمتهن الهندسة المعمارية ليكون شهيرا وإنما ليكون قريبا من الله”، وقال: “أتمنى أن ترى الأجيال القادمة أعمالي ليدروكوا مدى مثابرتي، وليذكروني في صلاتهم” فاللهم ارحمه وتقبل منه، وعلى كل عامل مثابر مخلص.
في عام 1982م واعترافاً بمنجزاته تم تغيير اسم أكاديمية الفنون في إسطنبول إلى جامعة ميمار سنان في الذكرى المئويّة لتأسيسها.
أخي طالب العلم، هل تفكر -وأنت تدرس أو تعمل- في إضافة لتخصصك بنظرية أو حل لإشكالية مطروحة؟
المصادر:
- ويكيبيديا
- برنامج “منوعات عالمية” قناة المصرية الأولى.
- وثائقي “علماء مسلمون” الجزيرة الوثائقية
Comments (22)
ما شاء الله أخي جابر تبدع في كل المجالات… بقي لك أن تزور اسطنبول فأنت أجدر بزيارتها لتتأمل أكثر.
اهلا عبد الرحمن، فعلا تبقى اسطنبول لحد الآن الوجهة المطلوبة، بعدما كانت زيارتها خفيفة Transit… معا إن شاء الله، فأنت أدرى بها مني.
هدف التدوين الأول هو الإفادة لا التسلية وما أكثر ما أستفيد من منهلك هذا أخي.
جعلتني أبحث في الموضوع و استغربت كيف تأثر سنان بكل آثار المدن البيزنطية والسلجوقية والإيرانية والعربية والتركمانية والمملوكية معا! حاولت أن أجد بعض مخططات مبانية ولم أجدها متوفرة للأسف. لكني راسلت جامعته طالبا إياها.
غريب أيضا أن نبحث عن قدواتنا عن الغرب حتى في ميادين لازالوا عاجزين أن يقلدوا فيها أجدادنا كميدان العمارة مثلا، بينما لدنا سنان و أمثاله! أليس غريبا أن لا يتوجّه مهندسونا لأمثال هؤلاء دراسة وتقليداً…
ملاحظة: اليوم انتبهت كم هو عظيم الشبه بين طريقة كتابتك وطريقة كتابة الدكتور بابا عمي، وهي من الإمتاع بحيث لا تنتهي منها حتى تكمل الموضوع.
جميل أن يتعمق القارئ ويتفاعل مع الموضوع، فما ذكرته هنا كان مختصرا جدا، إلى حد الخوف من الإخلال به وفقد توازنه، أشكرك على هذا عزيزي باسم، وأنتظر منك مقالة في الموضوع بلمستك الخاصة الرائعة.
ملاحظتك إطراء؟ أم مدح؟ فشتان بيننا في الحقيقة، إلا أني ما عهدت منك إلا الصدق فأقول: اللهم اجعلنا معا (أنت وأنا) في مستوى ما شهد عني.
تحياتي وشكرا
لله دره
أسأل الله أن يهبنا مئة سنان في زمننا هذا
آمين يارب، يمكن ذلك أخي بك وبأمثالك وبنا جميعا إن شاء الله
جميل ان نتعرف على عالم من علمائنا المنسيين بين صفحات التاريخ … فبورك هذا الجابر الذي جبر جهلنا بأهلنا و قومنا ….
على الهامش :
1 = ارى اتجاهك نحو التراث التركي قد زاد في الآونة الأخيرة ، فهل لنا ان نعرف لماذا و كيف ؟
أهلا عبد الحفيظ…
تركيا بلد زاخر بالتاريخ والحضارة الإسلامية، كما أن بصماتها واضحة في هذا العصر، أما عن كيف فبحكم العمل والعلاقات المترابطة حاليا، والأمر في ازدياد، لذا فربما ستقوى الوتيرة أكثر كلما رأيت ما يستحق النشر والإفادة منها.
هذا عن تركيا وقبلها كانت قطر وفي المستقبل الله أعلم، المهم أن يكون الإنسان متفاعلا منسجما بين أفكاره ومحيطه وبين ما يكتبه ويتعامل به، فاللهم اجعنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وشكرا
اشكرك جزيل الشكر أخي جابر على هذا الموضوع القيم ، فقط أود أن أعرف كيف استطعت معرفة مثل هذه الشخصيات الغائبة ؟ حتى التاريخ الذي ندرسه ام أتذكر أنه يوما ما مر علي اسم مثل هذه الشخصية ، على كل مشكور أخ جابر على هذه التدوينة الرائعة
أهلا إلياس، علينا ألا نكتفي بما يدرس لنا، فتلك ما هي سوى مفاتيح العلم، إنما على كل منا أن يغوص في الكتب والمراجع باحثا عن اللآلئ فمكانها العمق.
أمثال هذه المواضيع تكون مستقاة من محاضرات أو حتى جلسات سمر مع الأصدقاء، وكم من مقالة كانت انطلاقتها كلمة أو إشارة.
تحياتي إلياس، وفقك الله
رائع وجميل جدا….بارك الله فيك يا اخي
وفيك بورك عزيزي، شكرا لك
مقال رائع جدا من حيث المعنى والمبنى فقد أحسنت التقديم لموضوعك بتلك المقدمة القيمة ثم ولجت في الموضوع الرئيسي بسلاسة ونقلتنا في رحلة ماتعة إلى أعالي تركيا حيث تزهو الصوامع والمآذن والقباب بجمالها وقوامها الشامخ عبر القرون والأزمنة وجعلتنا نرى سنان رؤيا العين وهو يرسم مخططات بناياته ويقيس المسافات والأبعاد وقلبه عامر بحب الله وعينه ترى من على بُعد قرون الأجيال المستخلفة وهي باسقة أعناقها صوب إنجازاته الملهمة منبهرة ببراعة صنعها وبالأيدي الذي شيدتها …فطوبى لمن نقش اسمه بحروف من ذهب في ذاكرة التاريخ والحضارات . طبعا لا أقصد جانب الظهور و إعجاب الناس وإنما العبرة بالعمل الصالح الذي به نال الإنسان لقب خليفة الله في أرضه وشتان بين من يملأ أيامه عملا وجهدا ومثابرة وإصرارا على بلوغ الأهداف البعيدة ومن يعيش لنفسه و في حدود يومه لم تحدثه نفسه يوما بصعود الجبال يجيء ويغدو من الدنيا ولا أثر …شكرا لك أخ جابر على هذا الموضوع الملهِم ومزيدا من التألق والإبداع في مدونتك الواعدة .. وعذرا على ما بدر مني سالفا وشكرا على التوضيح..
أهلا بك، فعلا أشرت لأمر مهم وهو العمل والتفاني والإخلاص لوجه الله تعالى غير طالبين جاه ولا منصبا ولا ذكرا وإن كانوا مما يأتي آليا، فسنان علمنا ما معنى أن تترك أثرا بعدك وقلبك معلق بالله عز وجل.
أخي جابر حاليا أزوال دراستي في السنة الأخيرة بالثانوية.وأصدقك القول أكبر طموحاتي هو أن أحصل على الباكالوريا وأرتاح من الدراسة في الثانوية. لا أظن أنني سأستطيع إضافة الجديد لمجال تخصصي بهذا المستوى التعليمي المتدني في الجزائر. ولكن رغم ذلك أتمنى أن أضيف جديدا يوم أبدأ حياتي المهنية إقتداء بمثل هؤلاء العلماء .
بارك الله فيك وأرجو أن تكتب المزيد عن العلماء المسلمين.الذين لا نعرفهم 🙂
وفقك الله أخي، أنت في مستهل الحياة العلمية إن شاء الله، فليكن لديك هدفك السامي نحو تقديم تلك الإضافة، ففي أصعب الظروف يولد الإبداع، والأزمة تلد الهمة، جعلك الله من العلماء المخلصين عزيزي، وتقبل منك، شكرا جزيلا لك
بارك الله فيك يابني وجعلك سنان زمانك برفع همّتك إلى مستوى رفيع جدّا
فسنان رجل زمانه وأنت رجل زمانك وإنّ التشبّه بالكرام فلاح
فاللهم زده علما وتوفيقا وتألّقا
فصعدا نحو العلا والسؤدد يا ولديالعزيز
والله معك ما دمت مخلصا لدينك ووطنك وأمّتك
فامتثل بوصيّة الشيخ عدّون رحمه الله: اتّق الله وأخلص في العمل ولا تنتظر النتيجة فالنتيجة بيد الله وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا.
اللهم ارزقنا الصبر والإخلاص والصدق في العمل، وجاز كل من أكرمنا بالتربية والتوجيه بإحسان وثواب جزيل، واجعل مثواهم الجنة يا أرحم الراحمين.
أخي جابر السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته أود فقط أن اضيف لما قلته في تدوينتك الرائعة موضوع جديد يصب في حياة المهندس المعماري ميمار سنان ، في هذه التدوينة ركزت أكثر على أعماله وانجازاته فقط
http://www.ilyasbenbaamour.com/?p=416
عمل رائع إلياس، مقالتك امتداد وإثراء جميل للموضوع، وفقك الله
بارك الله فيك و زاداك علما وفهما .. لقد أثريت الرصيد التاريخي للأمة بترجمة رائعة تقبل الله منك
فعلا اندهشت برؤية هذا المسجد الرائع وتفاجئت اكثر بان كم نحن
(المسلمين) اناس اصحاب ماضي عريق يتلهف الغرب لسرقة واقتباس
افكارنا ودراساتنا وعلمنا الذي تعب وجد عليه اجدادنا واجداد اجدادنا في
العصر الاسلامي القديم
فعلا افتخر وسعيد بما قرأت .. احمد الله انني عربي ومسلم وافتخر بعروبتنا
وفكر رجالات ذاك الزمن البعيد وابداعاتهم الجليلة ……………….