يحرص الإنسان في عمله على علاقاته التي يبنيها من كل معاملة، فهي الوقود الذي به تتم الأعمال وتنجز المهام، لكن هذه العلاقات تتعرض أحيانا لاختبارات حادة، وتجري في مسالك وعرة يحتار فيها الطرفان معا، ففي أحسن الأحوال يجتهدان في المرور بها لبر الأمان بأقل الأضرار، ولكن الناس أنواع في معالجة هذا الموضوع بالذات.
لنبدأ في بسط الموضوع بتسلسل مرحلي لعلاقات العمل (العلاقة الاحترافية) وكيف أنها تبدأ عادة من مستوى أدنى أو من درجة متقدمة ابتداء، وتتصاعد إلى مستوى معين، ثم بعدها إما أن تبقى في ازدياد وسمو، أو في رتابة لمدة زمنية معينة وبناء على أسباب محددة، كما يمكن أن تنزل بوتيرة بطيئة، والإشكال الأكبر حينما تهوي فجأة وتسقط سقوطا حرا، فلماذا وكيف يحدث كل هذا؟
إشارة انطلاق أي علاقة عمل تبدأ بمصلحة مشتركة بين الطرفين، وهذا أمر معقول ومنطقي، فإن لم تسبق لطرفي العلاقة في عمل معين معرفة بينهما، فسيجد كل منهما حاجز واضح من الاحترام والتقدير ومحاولة الإحسان قدر المستطاع، تفاديا لأي سوء فهم قد يؤدي لإنهاء العلاقة وبالتالي زوال الفائدة المرجوة منها، إلا أن هذا الشعور مؤقت سرعان ما تقل جذوته ويتلاشى مع تقادم العلاقة وتتالي مراحلها، فيمكن أن نسمى هذه الظاهرة بمرحلة التمثيل.
بعدها تأتي مرحلة التحمّل، فمن جرّاء المعاملة بينهما وبلقاء وحديث تلو الآخر، يظهر كل من الطرفين على سجيّته وعفويته، إلا أن أي منهما لازال محافظا على تلك المصلحة العليا فيتغافل ويمرر ما لا يستسيغ كالتأخر في المواعيد أو إخلافها، وعدم تلبية الطلبات ومسايرة الخيارات، فيحدث الاختلاف وتتباعد الذهنيات، مع تحمّل يزداد ويكبر دون أن يعلن أي منهما تذمرا للآخر تفاديا للإشكال السابق نفسه، وكأن لسان حالهما يقول: “ما بنتج من تعاملنا أكبر مما يحصل”، لكن هل يبقى الحال على ما هو؟
بعض من أصحاب الحق المهضوم يختارون أن يصبروا لحين انتهاء المعاملة، ويقنعون أنفسهم بضرورة التحلي بالحِلم والأناة، وتأجيل أي انتقادات لما بعد انتهاء المعاملة وإتمام العقد، سواء كان ذلك الطرف هو من طلب الخدمة أو من عليه أداؤها، إلا أن البعض الآخر يفضل المصارحة وتسجيل الملاحظات حين وقوعها بناء على نمط شخصيته أو رميا للحصول على بعض الامتيازات المادية أو المعنوية أو ما يعبّر عنه في مصطلح الأعمال بـ (التخفيضات) بدل الأضرار، وعلى وجه المسامحة.
لكلا الصنفين إيجابيات وسلبيات، فالأول يرى أن المعاملة لازالت في أولى مراحلها، وكما أن الخطأ قد ورد من الطرف الآخر فيمكن أيضا أن يرد منه في قادم المراحل، لذا عليه ألا يتسرع في الاحتجاج والمطالبة بحقه، فيما الثاني يرى الجدوى في تصفية المتعلقات وعدم تأجيل أيا مما يمكن أن يعكر صفو المعاملة فيختار الصراحة منهجا، مع إمكانية صدور أخطاء منه دون أن يولي لها بالا واهتماما كافيا بقدر الأخطاء التي يراها في الطرف المقابل.
إن سلمنا أن الإشكالات المترتبة عن علاقات العمل ظاهرة صحية وطبيعية، ولا تخلو أي معاملة منها مهما كانت، إلا أن العبرة بالنهايات السعيدة، إذ يأخذ كل طرف مراده، فصاحب الخدمة يرضى بالخدمة ويعد بتكرار التجربة، وصاحب المقابل المادي يصبح محفزا لخوض المعاملة مجددا مع نفس الشخص أو الجهة، ولا يكون هذا إلا إن كان الطرفان من نفس النمط المذكور سالفا، إن صريحين فمعا، وإن صابرين فمعا، بهذا ستسير الأمور بشكل جيد في الأساس.
إلا أن المشكل الكبير والذي يؤدي غالبا لعواقب سيئة ونهاية حزينة للمعاملات يكمن في وضع يكون فيه كل من الطرفين صاحب نمط مختلف، كيف ذلك؟ تبدأ معاملة ما، وأثناءها يقوم طرف بزلة معينة، لكن الثاني يتغاضى عنها مبررا لصاحبه تبريرا معينا، ثم يقوم هو بزلة ما، فيبادر الآخر لإنكار ذلك وتسجيل الملاحظة وفق نمط الصراحة لديه، فماذا يحدث هنا؟ خاصة لو استحضرنا هذا الموقف حينما يمرر الأول عدة أخطاء وقع فيها الآخر مقدرا ظروفه ومستعينا بحِلمه ورزانته، لكن في أول زلة له يحتج عليه صاحبه، ولكم أن تتخيلوا بقية المعاملة كيف ستمضي.
من أصعب ما في العلاقات الإنسانية بتركيبيتها ذلك الاختلاف في تقدير الأخطاء، فمن الناس من يصنف نفس الخطأ من الكبائر -ليس بالمصطلح الشرعي طبعا- ومنهم من لا يراه إلا زلة صغيرة، بل الأدهى ألا يعتبره صنف آخر خطأ أصلا، ولا يمكن تمييز الصواب هنا بسهولة، إلا عن طريق الاستعانة بأطراف أخرى والوقوف على القضية بتفاصيلها ومن الكفّتين، ولعلهم في الأخير يخلصون لنتيجة واضحة، فهنا وجب الوضوح والتنازل وأخذ الأمر بالحكمة وعدم اعتماد أي قرار مالم يخدم مصلحة الجميع آنيا وللمدى البعيد أيضا.
أمر آخر وجب التنبيه إليه هو عدم الإغراق في الحديث بداية وأثناء وحتى بعد المعاملة عن المقاييس والمعايير، باعتبار أن في ذلك فتح لباب المشاححة والمحاسبة المبالغة، والمشكل يطفو أكثر حينما يتعلق طرف ما بالمسألة في إطار حقوقه وما على الطرف الآخر القيام به تجاهه، فيما يخرق هو بعض القواعد التي تأتي في خانة واجباته، لذا أرى أن نلتزم المقاييس انطلاقا، لكن لا إشكال في التنازل عن بعضها مما هو من الجزئيات، فهي في الأخير اجتهادات بشر لا تلزم بشكل مطلق.
علاقاتنا ذات أسس تراحمية أكثر من كونها تعاقدية، تحكمها الأخلاق قبل القوانين، ويزينها الإحسان فضلا عن أداء الواجب، فهي تعتبر أمرا مقدسا لمن فهم جيدا المعنى والمغزى منها، فالمحور فيها هو الإنسان وليست الخدمة التي يطلبها أو يقوم بأدائها، ولا الوسائل المستعملة فيها، لذا وجبت علينا مراجعتها ومعاهدتها بالصيانة بشكل مستمر، مع أن الأصل في العلاقة هو الإلتزام في العمل وليس الإدعاء في الأقوال والتفنن في الحديث عن المبادئ والأصول.
فلنعمل على البرهنة عن قدراتنا ميدانيا، ولنحرص على كسب التقدير والاحترام حقيقة لا تزلّفا ولو تطلب ذلك تضحيات عزيزة منا، وإلا فما دامت العلاقة عملية فإننا يمكن أن نواصل فيها أو نوقفها عند حدها، “فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”، حفاظا على ما بقي فيها من الجانب الشخصي وهو الأهم والأبقى.