الحياة، تلك الغامضة الواضحة، تغرينا تارة لتصفعنا، وتغازلنا تارة لتهيننا وتمرغ أنوفنا في التراب، لا يهنأ لها بال حتى تكرر معنا بقسوة ما عانينا فيه منها، وكأنها تتلذذ بذلك وتستمتع، لا ذنب في كل ذلك إلا لنا، لأننا ندعي فهمها ونحن أبعد ما نكون، ونعتقد فكّ طلاسمها ونحن أدنى من أن نكون.

المؤسف أن خوض غمار الحياة ليس بأيدينا، وكل انسحاب يؤذينا، وكل إقبال يردينا، لا تقبل منا نصف القرار، ولا ترضى بنا إلا بما نجاريها ونواكبها، نتأقلم مع اضطرابها، ونتعلم من هزاتها، ولو كانت بعض لحظاتها جميلة، والكثير من ذكرياتها لطيفة مريحة، إلا أن السواد القليل فيها يقتل كل أمل، ويهدم كل حلم.

الصدمة فيها مؤلمة، وكلما كان مصدرها أقرب زاد الوقع أكثر، وغار الحرج عميقا، صدمة قد تأتي كخيبة بعد ثقة في علاقة ما، علاقة رحم، أو صداقة، أو زمالة مهنية، أو شراكة عمل، وفي كل منها مذاق أمرّ من الآخر، علقم كل الناس شاربوه، بين من تذوّقه القطرة، ومن يشرب من كأس صغيرة، وآخر يسقى من الإناء تلو الإناء..

الناس مذاهب، ومدارس، ومعادن، في التعامل مع الصدمات، منهم من يستسلم باكيا شاكيا منكسرا، ومنهم من يتمسّك بقشة الأمل مصابرا متحمّلا، ثم ينهار بعدها بشكل فظيع، ومنهم من يتخذ من محبوبه -شيئا كان أو بشرا- سندا ومتّكآ، يبوح له ويحكي، راجيا منه العون والمدد النفسي والعاطفي، يلجأ إليه في كل لحظة، حتى إذا خفّ ألمه وزال العبء عنه قلّ التواصل وقد يختفي أو يكاد.. وهكذا الإنسان حين يمارس بحق إنسانيته بضعفه وأنانيته..

وتيرة فهم مفاتيح الحياة ليست رتيبة، ونسبة إدراك أسبابها ليست مستقرة النمو، تنكشف حقائقها أمامنا ويتضاعف الرصيد كلما سقطنا، تتسارع الصورة في وضوحها كلما تعثرنا، تزداد الإشارة نقاوة وفصاحة كلما اصطدمنا أو كدنا، لا يمكننا فهم النجاح ما لم نلمسه، ولا يتاح لنا فهم الفشل ما لم نتجرع غصته، وما دون ذلك تنظير ووصف بعيد لا يعبر عن جوهر الحقيقة شيئا.

الجميل رغم كل ذلك أن الإنسان بعقله يروض تلك الحياة بقسوتها وتلوّنها، بقلبه يطوعها، وبحكمته يمسك زمامها، إن أدرك المعنى منها حقيقة، وإن تفطّن لمغزاها مبكّرا، مستلهما من تجارب غيره، مستفيدا مما يحدث حوله، متّعظا بما يعيش ويشاهد ويسمع، ولا شيء أقوى من عقل الإنسان وقلبه إن صبغهما بالإيمان، وملأهما باليقين بالله عز وجل، وأي فهم لرسالة الحياة دون ذلك هو زيغ وسوء تقدير.

هل بعد كل هذا قد خلق الإنسان ليعيش وحيدا؟ لولا لطف الله، ومعيته، وحفظه، والإيمان بأن الموت حق، وما عند الله خير وأبقى، لكانت الحياة مرة كئيبة، فالحمد لله على كل حال..