تنظيم الفعاليات الجماهيرية ليس أمرا بسيطا كما يتخيله البعض كما أنه ليس بالأمر المعقّد، فالإحاطة بكل جوانب الحدث يتطلّب جهدا كبيرا، وعددا معتبرا من الكفاءات، كل في مجال عمله ومساحته التي أوكلت له، وفق مخطط واضح ومدروس، وكما يقال: “إن رأيتها خضراء فاعلم أن جذورها في الماء”…

في الحلقة الأولى تناولت أهم زوايا مهرجان قطر البحري، كوصف سريع ومحاولة لوضع القارئ الكريم أمام الصورة، رغم أنه عليّ الاعتراف بتقصيري في نقل أية صورة حقيقية، لأن عيش الحدث ليس كالقراءة عنه وهذا أمر واضح.

مما استوقفني في موضوع المهرجان الكثير من الأمور التي ربما لا يلقي لها بالا كل زائر عادي، هدفه الاستمتاع بالجو الربيعي اللطيف والمناظر الطبيعية أو التي كانت من إبداع أنامل الإنسان هناك، ومن هذه المحطّات أذكر:

  • جانب التسويق: هذه النقطة أردت البداية بها كونها من صميم التخصص من جهة، ولأن المكلف بها حقا أبدع وأتقن عمله من جهة ثانية حيث لا يجعلك تفكر في غيرها أولا، ففي كل مكان في الدوحة حينها كان تعلّق لافتات صغيرة وكبيرة كدعاية للمهرجان، فتصميمها احترافي لأبعد الحدود، وكذا أماكن عرضها مدروسة بطريقة مرتّبة غير مزعجة للناظر إليها، وفي أرض الحدث، هناك المطبوعات كالمطويات والمعلّقات مصمّمة بشكل جميل وفق هوية فنّية موحّدة محترفة.
  • برنامج الفعاليات: كأوّل انطباع وأنت تطالع برنامج فعاليات المهرجان تعتقد جازما أن واضعيه لهم خبرة عقود وليس أعوام، فهو مرتّب بدقّة، وفق تسلسل معقول، حتّى أنك ما إن تقرأ عنوانا حتى تهزّ رأسك موافقا ومؤيّدا، فتحية لهم من هذا الجانب أيضا.
  • الديكور والشكل الجمالي: وإن جئنا للديكور والإبداع فيه، فهذا موضوع آخر، كذلك لا يقل جمالا ودقة من سابقيه، كل منصة تنسيك الآخرى، وكل زاوية أفضل من التي قبلها، ومن هنا نستمد فرقا واضحا بين وسط وآخر، فإن كانت الصفقات هنا للأسف، توزع وفق العلاقات الخاصة والقرابات والمصاهرات، فلا ننتظر تفانيا وإتقانا بعد ذلك، ولكن حينما نرى هنالك الإبداع والإتقان، ويخبرنا أصحابها أنه نتاج المنافسة الشرسة، تعلم أن الكفاءة والفعالية هي المعيار في أمورهم، وكل خطأ يكلّفك غاليا.
  • إبراز الثقافة القطرية: أو لنقل الخليجية، أو العربية ككل، ففي حدث يغلب على منظّميه كونهم أجانب من الكفاءات العربية أو الآسيوية أو الأوروبية أو الأمريكية، تجد مهمتهم تنظيمية محضة، فيما تلمس في كل جانب من جوانب الحدث نفحات الثقافة القطرية واضحة جليّة، فاللافتات بالعربية والإنجليزية، فالأولى هي اللغة الأصل، أما الثانية فضرورية كون المهرجان عالمي يستقبل كل الأجناس، فيما نحن هنا نجد اللافتات بالفرنسية حتى في فعاليات تعالج قضايا اللغة العربية دون مبرر واضح، فتجد الزائر الانجليزي يسأل العربي حائرا ماذا كتب هناك؟ ليجيبه الثاني !Sorry I don’t know، ولسان حال المنظّمين يقول: كل الحوت ولّا موت!
  • استقبال الزوار: كما أشرت في الحلقة الأولى فالشاشة تعلو وجوه كل موظّف في المهرجان، هو خلق متجذّر وليس تصنّع فقط سرعان ما يزول بزوال ذلك الحدث، أو بمجرد مرورك منه، أرجو أن يفهم القائمون عندنا بالفعاليات والمعارض ما قيمة الابتسامة، فهي مفتاح القلوب كما يقال، وهي نصف الطريق لاحترام النظام من الزوار، وكيف تنتظر من زائر أن يحترمك وأنت تظهر له تكبّرا وتعاليا بمجرد كونك حاملا لشارة حارس في مدخل معرض محلي، ليس حتى وطني أو عالمي!؟
  • فرصة للكبار والصغار: حقيقة من أجمل ما فكّر فيه المنظّمون، فلكل من أفراد الأسرة مجاله الترفيهي الذي يليق به، ورغم أن المهرجان في ظاهره مخصص للكبار، أو على الأقل الأطفال الذين في طور الدراسة، إلا أن هناك مساحة واسعة مرتّبة ومهيّأة للأطفال، للتعلم والتسلية ولشتى الأعمار، مما أدى للكبار أيضا بالانضمام إليهم كونهم ربما غبطوهم على تلك الاجواء الرائعة، لا أريد المقارنة معنا في هذا الجانب لأنها بالتأكيد ستكون ظالمة! فكيف تفكّر أصلا في زيارة حدث مع أسرتك باحترام؟ ومن يضمن لك أن تجد جوا محافظا ملتزما؟
  • خدمات التسلية والراحة: مما لاحظته في قطر، ومثلها في دول الخليج عامة، تفكيرهم في وسائل الراحة عند كل مكان عام، فبدءا بمنع التدخين الذي صار لديهم من المسلّمات، إلى توفير مطاعم واستراحات تخفف فيها من عناء المشيء الطويل بين أرجاء المهرجان، إلى ماهو الأصل والواجب، مصلى للرجال وآخر للنساء، فتصوّروا أني يوما اضطررت إلى اقتناء قسيمة ألعاب في حديقة التسلية بالعاصمة لغرض الصلاة فقط، بعدما بحثت عن مكان للصلاة في قصر المعارض ولم أجد، بل الأكثر من ذلك حين أسأل أي عون أمن هناك يراني بنظرة استغراب وكأنه يقول: ألا زلت تصلي!؟، فالصلاة هناك (الخليج) لن تكون عائقا لك أبدا حين تتجول في أي مكان لأنك حتما ستجد مصليات فاخرة نظيفة بكل مستلزماتها، والحمد لله على نعمة الإسلام.
  • الأمن والأمان: أكثر ما يريد المرء أن يحسّ به وهو في سياحة الطمأنينة وراحة البال، يعني بتعبير آخر، لا يريد ما ينغّص عليه يومه ولو بإشارة، هذا ما تحسّ به هناك وأنت تتجول وحدك أو برفقة أسرتك، فلا تخاف عليهم من تصرّفات المراهقين من مضايقات أوسرقات أو غيرها، فالتصوير مثلا مسموح به في كل مكان، على خلافنا هنا فإن اخترت مكانا مناسبا لتأخذ صورة تفاجأ بيد غليظة تحاول دفعك وأخذ الكاميرا بإهانة ودون سابق إنذار، التصوير ممنوع! لماذا: الله أعلم، ومن صاحب القرار: الله أعلم، لكن هناك تلمس السهولة في كل الأمور، فالتنظيم بقدر ماهو قوي، هو بسيط أيضا، حيث لا تشعر بكونه يضايق حريتك أو يملي عليك ما لا تستسيغه.

هذه بعض الخواطر التي جمعتها من مهرجان قطر البحري، وهي نفسها التي أكتبها لو زرت أي فعالية أخرى هناك، لأن الجوهر واحد، والشكل والمسميات فقط من تتغيّر، فلو تلاحظ تجدها أمورا بسيطة، لا أدري ما الذي يجعل إخواننا هنا يعقّدون الأمور، فزر معرض السيارات هنا أو الكتاب أو غيره، وزر مثاله هناك، ثم أخبرني بالفرق، فهناك كما قلت وأكرر لديهم الإنسان شيء مهم، وعقله أهم بكثير، فيسعون لأجل راحتك ولو بمقابل، إلا أنك تدفع لترى النتيجة في حينها.