هي نكبة أم فتنة؟ أزمة حقيقية أم زوبعة في فنجان؟ المهم هي أحداث غير عادية نشبت في بلدتي الآمنة التي كان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، زرتها بعد طول غياب ولم أكن أدري ولا أتوقع أني سأعيش تلك اللحظات الصعبة جدا، هو قدر الله ولا ملاذ منه، حاولت أن أقرأ رسائله التي جاءت مشفرة في بعضها واضحة جلية في بعضها الآخر، أكتب عن بعضها هنا وأحتفظ بالباقي لحينه، ففي الذهن أفكار وآراء ووجهات نظر تعتصره وتبحث لها عن مهرب لتهرب!

اخترت عمدا هذا التوقيت بالضبط لأكتب عن الأزمة بعد تأملات فيها وقراءة متأنية للأوضاع من الداخل والخارج، فكما يأخذ كل إنسان تصورا معينا عن كل محطة غير عادية تمر عليه أو يمر عليها بناء على جزء من الحقيقة ونصيب من المعلومات اطلع عليها، كذلك فعلت فلا أدعي فهم كل الواقع بجزئياته وتفاصيله إلا أني أملك نصيبا هاما من الخطوط العريضة والملامح العميقة التي تحدد شكل الأحداث واتجاهها ومصيرها.

لذا فسأقرأ الحدث من عدة جوانب وأطراف، وأقدم آرائي حولها ناقدا مصوّبا ما استطعت، طالبا في نفس الوقت التصويب والتوجيه منكم، فلربما غاب عني أمر ينبهني إليه أحدكم، ولربما جانبت الصواب في تقدير مسألة معينة، ففي الأخير هي مقالة بشكل الورشة مفتوحة متكاملة بين نصها وتعقيباتها أسفلها، هدفي منها واضح “إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ” هود، 88.

ما جرى في غرداية وقبلها القرارة نهاية العام كان مأساويا بحق لكن لم يبلغ عُشر ما يحدث في سوريا أو مصر أو فلسطين أو غيرها… فهي من قبيل الفتن التي تمسّ الإنسان من حين لآخر ليعود لرشده ويصحح مساره ويعيد النظر في الكثير من الأمور، وإن عالجنا أحزاننا من هذه الزاوية ونظرنا إليها من هذه المداخل كانت أقلّ وقعا، وأقرب رشدا لاستخلاص المنح منها واستثمار المكاسب التي تتولد منها.

قال عز من قائل: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ” البقرة، 155، 156، 157.

هناك حقائق لا غبار عليها ولم تكن من قبيل الشك والريبة بما لها من دلائل وقرائن، ومما شاهدته رأي العين ولم يحدثني عنه أحد، وهي أن هناك ظالم ومظلوم، فلا القضية قضية فتنة بين طائفتين تستوجب الصلح، ولا المسألة مسألة سوء تفاهم يمكن تجاوزه بأسباب مادية، إنما القضية أعمق لأنها تمس الأخلاق والذهنيات، تستحضر التاريخ، وتستنطق التباين الجلي في مستوى التفكير والنظر للحياة عامة.

فالاعتداء بدأ في رقعة صغيرة وامتدت ناره لتحرق المدينة بالإشاعات المغرضة واللعب في وتر الطائفية والمذهبية، وللأسف فالناس انساقوا وانجروا، رغم أن البدايات كانت من منحرفين يعيشون بتجارة المخدرات في حي من أحياء غرداية اشتهر بذلك من سنوات، ورغم الشكاوى والتحذيرات إلا أن من بيدهم الأمر لم يحركوا ساكنا لحاجة في نفس بعض منهم، مع وجود جهود خيّرة أخرى لكنّ نفوذها أقل وأضعف، وإذا لم يتدارك الوضع فالكارثة ستحل بالوطن عموما لا قدر الله.

لا أدخل كثيرا في التفاصيل فليس المجال مجالها، إنما أحاول أن أضع في الصورة كل من راسلني مستفسرا، ومن سيقرأ هذه المقالة أيضا، أن ما يحدث في غرداية هو صراع بين الحق والباطل، الحق واضح جلي، والباطل قاتم مظلم، ومن وضع يده في صدره وترك الحميّة مهما كان انتماؤه اهتدى للصواب بإذن الله، لكن من ركب هواه وامتطى الإشاعات والأوهام وأخذته العزة بالإثم، فالمسكين سيجد مصيره محزنا ولن يفرح كثيرا.

ففي غرداية حدث نهب وحرق لمحال تجارية ومنازل آمنة كبّدت أصحابها خسائر بالملايير، وخلّفت وراءها صدمات نفسية عميقة، والأدهى من ذلك والأمر تدنيس المعالم التاريخية التي مسّت كل حرّ ذي عقل لبيب، فقد وصل الأمر بأشباه البشر أن ينبشوا القبور ويحطموها، ولا أزيد في تفاصيل كئيبة حزينة، فما خفي أعظم.

نعم هناك هبّة وطنية للخيرين حول ما يحدث في غرداية وهذا طبع الجزائري حين تمسّ كرامته ظلما، والطيب ليس ملزما بالتغني بإنجازاته وسمعته في كل ناد، لأن آثاره وطباعه إن كانت مخلصة فإنها تعبّر عنه وتتحدث مكانه، ومن الإنصاف ألا نتسرع في الأحكام، ومن الحكمة ألا نرمي الناس جميعا في سلة واحدة، فالتعميم آفة وأية آفة… ولكن!

أعتقد أن كل من يصفق للظالم ولو من وراء حجاب، أو على الأقل يصمت فهو أحقر منه وأسوأ حالا، وإن كان هذا الصامت شيخا أو شخصية مرموقة بمقاييس البشر، وما بالك بحفنة من رجال الأمن ممن خان عهده ووقف متلبسا بشكل فاضح يدا بيد مع الظلم، فكلمة الحق واجبة في هذه الظروف ولو جرت خلفها ما تجرّ من المتاعب.

الخيرية مرهونة بصفتها لا بموصوفها، مبدأ عميق لو اتخذناه في حياتنا انجلى الكثير من الضباب وتوضحت الصور القاتمة أمامنا فالخير كامن في الإنسان بسلوكه وأفعاله لا بأهله وجيرته، والساكت عن الحق من أي طرف كان ظالم لا فرق بينه وبين من ظلم، ولعاقل أن يتأمل بعض الشيء في قضية غرداية ليتخذ حكما وموقفا.

من هنا أيضا أوجّه تحية خالصة لجهود الخيّرين من أرفع مقام في الدولة إلى أدناه، لوأد الفتنة برد الاعتبار والحقوق لأصحابها مهما كان لونهم وعرقهم ومذهبهم، لا بالمداهنة والجُبن والنفاق، فالله وحده العالم بتفانيهم ولو أنكر عليهم بعض ممن هو أقرب وأولى، كما أنصح الناس مثلي بالتريث في إطلاق الأحكام، فالكثير من المساعي في مثل هذه الظروف تحدث في العمق بعيدا عن الشعارات والضوضاء، لأنها تستلزم هدوءا ورويّة لتكون مفيدة فعّالة.

هي مقالة حوت خواطري حول الأحداث، لا أرمي فيها عرقا بالشر، ولا أنزّه آخر بالملائكية، ولكن القويّ الأمين منا من صدح بالحق ولو كان ضده، وأشاد بالخير ولو كان من غيره، فهؤلاء من ترفع بهم الهامات، وتتقدم بهم المقامات، ويزدهر بهم الوطن.

نسأل الله العليّ القدير أن يلهمنا رشدها ويرينا الحق حقا ويزرقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، يارحمان يا رحيم.