أطلقت قبل أيام استطلاع رأي* لقراء المدونة الأوفياء ممن يتابع ما يفيده أحيانا ويصدم بما يخذله أحيانا أخرى فيها، فحواه أني أريد التعرف على أنواع المقالات التي يحبذونها أو يميلون إليها أكثر، ويجعل كتاباتي فيها مما يلامس اهتماماتهم فيقرروا قراءتها والتفاعل معها، ومن بين ما حاز الطلب “مقالات الرأي”.
هذه المقالة من هذا الصنف إن شاء الله، ألقي الضوء من خلالها بما جال في خاطري على شكل قراءة حول شريط وثائقي من إنتاج وبث قناة الجزيرة الفضائية، وقد وقعت عيناي عليه بمحض الصدفة حينما كنت أبحث عن مقطع للفيديو في “اليوتيوب”، حول موضوع أهمّني هذه الأيام، لكن أهمية هذا الوثائقي من وجهة نظري، جعلتني أقرر الكتابة حوله، وأقلب الصدفة فرصة، وقد حوى الشريط في جزئيه تفاصيل كثيرة ورسائل مباشرة وأخرى من نوع أرض أرض، وقدم رؤية خاصة حول ملف حساس جدا، هو الأثقل في طاولة العالم منذ عصور وفي وقتنا الحالي.
القضية الفلسطينية… تلك القضية التي ميّعها من ميّعها، وتجاهلها من تجاهلها، وأساء إليها من أساء وفي نيته الإحسان، وأفسدها من أفسدها وفي نيته الإصلاح، صارت فجّة في عقول الأجيال وسلوكاتهم، بفعل زاوية تعامل المدرسة والإعلام والجو العام معها، هي فعلا قضية محورية في نهضة المسلمين، فهناك من يراها نتيجة، وهناك من يعتبرها منطلقا أساسيا ووسيلة وشرطا، وبين هذا وذاك، لازال المنحنى في انحدار، بفعل ميل الكفة للاتحاه الآخر، على الأقل حاليا، وفي الأمة خير لتصحيح المسار، وفيها من النوايا والبوادر ما يجعلنا نستبشر ونتفاءل خيرا إن شاء الله.
القضية الفلسطينية كما تسمى إعلاميا، هي الحقيقة قضية المسلمين جميعهم، بل البشرية، فالظلم ظلم يتجاوز حيز الدين والأعراق ليشمل الكون جميعا بكل الكائنات، ولمتأمل في تناول الإعلام للقضية -حتى من يقف منها موقف الناصر والمنتصر- يجد الخطاب يتغير ويتقلص بكل مكر ودهاء أو غفلة وسوء تقدير، قبعدما كانت قضية بشرية، صارت للمسلمين والمسيحيين، ثم للمسلمين، ثم للعرب، ثم للشرق الأوسط، ثم لفلسطين، ثم الآن فتح وحماس، ثم الضفة الغربية وقطاع غزة… إلى أن نجد الصراع في حي من الأحياء العريقة يوما ما! وفي كل مرة يحصر فيه النزاع لدائرة أضيق، يشكل ضمنيا تصورا وحكما ثم سلوكا على غيرها بالتجاهل العملي، ليبقى أضعف الإيمان وهو التعاطف اللاسلكي!
ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه فقد قيّض الله لنا من كتب عنها من المفكرين باختلاف مستويات كتاباتهم وعمقها، وفهمهم للظاهرة وتفسيراتهم لها، لعل أبرزهم المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية” التي قضى معها أكثر من ربع قرن محللا مفككا مجمعا، ونذكر أيضا الدكتور طارق السويدان وكتابه “اليهود الموسوعة المصورة”، وموسوعة اليهود المصورة، وغيرهم كثير…
لست لأتعمق في تفاصيل القضية فالموضوع ليس موضوعنا الآن، رغم أهميته، ولا أقول إنها أسطوانة مشروخة، لكني على يقين أننا نجهل منها أغلب تفاصيلها رغم ادعائنا سعة الاطلاع عليها ربما، فما يعرض لنا ليس هو تماما حقيقة القضية وجوهرها، والحل في تقليب أمهات الكتب والتهامها معرفيا، لذا فالغفلة مادامت مسيطرة، وما دام المسلمون لا يقرؤون إلا قليلا، فالحال على حالها ما كتب الله لها، مع إيماننا بتبدلها ونصرة الله وتمكينه المظلومين والمقهورين يوما ما، لكن هل يتم ذلك على أيدينا؟ الويل لنا إن لم يكن!
عودة للشريط الوثائقي وكتعريف سريع له فهو يروي قصة محاولة اغتيال غريبة للقائد خالد مشعل، مدير المكتب السياسي لحركة حمس، يوم 25 سبتمبر 1997 في الأردن، مكان عمله ووجود مكتبه (مكتب شامية)، المحاولة اليائسة كانت بالسم عوض المسدسات والرصاص وهي طبعا وقعت من أزلام الكيان الصهيوني، إذ أرادوا تصفيته باعتباره عقبة وغصة في نشاطهم الاستعماري الاستغلالي، ولكنهم لم يوفقوا ورد الله كيدهم بألطاف منه وحكمة لا يعلمها إلا هو، فتحولت المحنة إلى منحة ووقعت انعكاسات إيجابية وفتوحات لحركة حماس تحديدا، بأن كتب الله تحرير عدة قادة لها وفك أسرهم بعد سنوات قضوها في سجون المحتل، لعل أبرزهم الشهيد الشيخ أحمد ياسين، رحمه الله.
الوثائقي صور انتصارات العملية وأظهرها، مما يجعل المشاهد بمتابعة سريعة سطحية -وهذا حال ما يعرض في التلفزيون- يقوم بعد الشريط وفيه شحنة ارتياح من خطر إسرائيل، واعتقاد بضعفها وقلة حيلتها، فقد صُوِّر له فشلها، وكيف أنها سارعت لرأب الصدع مع الحلفاء، بتنازلات سريعة كبيرة في نظره، يراها أي كان انتصارا وأي انتصار، إلا أنه انتصار لحمس فقط، وإخفاق لكل من وقع يوما ما تنازلات للمحتل بأن وقع معه وله ولأجله مهما كانت الأسباب، ففي هذه العملية أرى أن إسرائيل المحتلة كذلك حققت انتصاراتها، وهي انتصارات عظيمة فعلا، كيف ذلك؟
بنو صهيون انتصروا أولا حينما عشّشوا كالسرطان في منطقة مقدسة واستباحوا ما فيها من (أشياء) في نظرهم، وبما أن المطالب كانت تحرير كل المنطقة واستردادها، صارت تعامل جيرانها بأمر الواقع، وفي الشريط الذي عرض، لا يطرح هذا الطرح إنما يصوّر لك بأن “معاهدة السلام” تلك صارت أمرا مفروغا منه ومتقبلا، ولا جدوى من العودة للخلف، والدليل أن ما ورد في إحدى لحظاته الحاسمة بكون “معاهدة السلام مرتبطة بحياة هذا الرجل!” والمقصود خالد مشعل، أي ليس بحياة نساء وأطفال وشيوخ وإنسان في الأخير يقتلون كل يوم بكل برودة دم في أرضهم وبين أهلهم! كما أن من جملة الرد ما كان محاصرة للسفارة الصهيونية، وهنا نطرح تساؤلا لم السفارة هناك أصلا؟
في الشريط أيضا تتيقن أن الجماهير لا زالت تنتشي بالخطابات، وتعتبرها إنجازات، فالاحتقان الذي يبلغ أشده يزول مباشرة ببعض الكلمات التي “تقال”، وهكذا تزال كل الإشكالات، وهذه ظاهرة تقع في كل البلدان المتخلفة دون استثناء، كما أنه في الطرف الآخر وبكل موضوعية هناك عمل وفعالية وحركية، ولعل أبرز ما شدني وأثار انتباهي وأسفي هو الجواب الذي قاله رئيس وزراء الصهاينة للملك الأردني حينها بكون جرعة السم التي سمّم بها القائد خالد مشعل لا يمكن تسليمها على خلاف الترياق المسموح بتسليمه، لأنها “ثروة وطنية” عندهم، فهل نعي جيدا معنى أن تكون لدينا ثروات وطنية؟ وهذه قوّة من يملك مفاتيح الأمور ولا يتكل على الاستيراد وفقط!
مسارعة إسرائيل للحل بأقصر الطرق لم يكن لإسكات العالم أو رد غضب منه ربما ولو كانت أمريكا كما صور في الشريط، إنما لإرجاع منفذي العملية إليها وقد ألقي القبض عليهم، وهم أيضا لديها بمثابة ثروة وطنية، وبتعبير أدق هم (إنسان) بأتم معنى الكلمة والباقي (أشياء) لها الحق في التصرف فيهم، وإسرائيل عودت نفسها قفز الحواجز تدريجيا، وحقن أعدائها بمصل متصاعد في درجات الألم، حتى إن هم (الأعداء) لم يتحركوا في الأولى جربت جرعة أقوى قليلا وهكذا، إلى أن تجدها تكتسح غزة مؤخرا بقنابلها العنقودية والعالم يندد، ولا أبطال في المعركة إلا أهل غزة المغلوبون على أمرهم!
أؤكد أن الانتصار الوحيد الذي وقع هو لحركة حماس باقتدار بالنظر لحجمها وتهديدها كشوكة في حلق المستدمر، كحركة مضيّق عليها أشد التضييق، وقد استرجعت بفضل الله قائدها الذي لم يمت من محاولة التسميم بعد أيام في الغيبوبة، وكذا زمرة من قياديها ورجالها الذين كانت إسرائيل تحسب لهم ألف حساب، لكنها من جهة -والذنب ليس ذنب حماس- تقتل من تشاء ومتى تشاء وهي تبرر لنفسها بكونهم إرهابيين وجبت ملاحقتهم ويجب ألا يكون لديهم أي ملاذ آمن أو حصانة -حسب تصريح رئيس الموساد عام 1997 داني ياتوم وبكل جرأة وأريحية-، والمؤسف أن العرب منهم من يساند، ومنهم من يقتل القضية فعلا بصمته!
أشير في الأخير إلى أن أمثال هذه الأعمال دائما ما يحمل في طياته تفاصيل لا تكتشف من أول مشاهدة، لذا وجب عليها التدقيق في التحليل، ومتابعة التعليق حول المشاهد بشكل مركز، فمثلا لم أوافق من كتب نص هذا الوثائقي في بعض انطباعاته وتفسيراته لما جاء فيه، والمشاهد المستهلك فقط سيذهب ضحية مغالطات إن هو لم يطلع على القضايا من مصادر مختلفة تجعله على الأقل يبني تصورا عنها بشكل أكثر تفسيرية، وبالتالي أقرب للصواب.
الجزء الأول
الجزء الثاني
* الاختيار لازال سائر المفعول ويمكنك المشاركة [من هنا]
—————————
على الجانب: أشكر كثيرا القائمين على مبادرة “المسابقة الناطقة” والتي حظيت بشرف مشاركة مدونتي كراعية لنسخة الأسبوع السابع، شكرا لكم مرة أخرى 🙂
Comments (6)
شكرا أخي جابر على المقال الهادف
فالإغتيالات تكتشف بمرور الزمن فمؤخرا ياسر عرفات و قتله بإشاعات البولونيوم
فالفلم الوثائقي حقيقة لم أره ولذلك لا أستطيع الحكم
وشكرا و بالتوفيق للبقية فلا تحرمنا منه
تحياتي
اللهم ارحم امواتنا واموات المسلمين وادخلهم الجنة سالمين
دائما ما نعرف الحقائق فى وقت متأخر
أشكرك أخى جابر على هذا الموضوع الجميل والهادف أيضا
شكرا لك أخى
مقال رائع يستحق القراءة
جزاكم الله خيرا