رغم أن الكتاب باللغة العربية التي –ظننت نفسي- أفهم فيها وأكتب، إلا أنه مما استعصى علي فهمه وإدراك معانيه لأول وهلة، فأسلوبه الممتع جدا لم يخل من العمق في الطرح بأفكار متزاحمة متداخلة، يخاطب القلب والوجدان بمنهج العقل والمنطق، ويجعل قارئه أمام وجبة فكرية علمية دسمة.

“عندما لا يحترق القلب شوقا، والروح عذابا، والذهن هما، فلا تتكلم… وإلا فلن تجد أحدا يصغي إليك” هكذا بدأها في مقدمة وتمهيد الكتاب، وهكذا هي الروح في كتب الأستاذ محمد فتح الله كولن (Fethullah Gülen)، وبهذا المستوى يعصر زبدته وينتج عسله ويضيء بزيته ما أظلم أمامنا، يعالج الفكر بالقرآن والسنة النبوية، يخاطب جيل اليوم بما يفهم ويعي، يتّسم بنظرته الكونية لقضايا الأمة، هذا مبدؤه وبذلك ينادي ويؤكد في كافة طروحاته ومؤلفاته.

كتاب طرق الإرشاد في الفكر والحياة الذي اقتنيته من معرض الكتاب بالجزائر لهذا العام، قرأته كغيره من الكتب في فترات متقطعة بين المكتب والبيت والحافلة والسيارة… إلخ، كان رفيقي المؤنس في أوقات الانتظار وما أكثرها، صغير الحجم حسيا على خلاف جانبه المعنوي الذي تكتشف ثقله من عنوانه، وتلمس قوته من مقدمته مرورا بفصوله المتعمقة في قضايا الإنسانية حيث يلقي الضوء على أشرف مهمة وأنبلها على الإطلاق منذ خلق سيدنا آدم عليه السلام ليوم الناس هذا وإلى قيام الساعة حين يشاء الله، هي مهمة الأنبياء والمرسلين… هي الدعوة إلى الله.

قضية الدعوة إلى سبيل الله هنا سبر المؤلف أغوارها من باب إننا كلنا مكلفون بها، مبينا فرضها وواجبها على كل واحد منا في وقتنا الحاضر بما أوتينا من وسائل دون تجنّ على العلم، ولا تسلّق لمستويات أعلى منا بغير حق، فالدعوة إلى الله على خلاف ما يعتقد السواد الأعظم من الناس، لها طرقها ووسائلها وتحكمها ضوابط وقواعد، وإلا لما كانت مهمة شريفة، فنحن نعيش الدعوة ونمارسها ونحن نعيش كل دقيقة من حياتنا، في بيوتنا وعملنا، في السوق والشارع، في الحل والترحال، هي مهمة لا إجازات فيها ولا استراحات إلا ماكان بالوفاة والأجل.

يعلمنا الكتاب أن الدعوة أشمل وأعظم من أن تحصر في مفهوم واحد كما ورثناه، فعلينا ونحن نقوم بها أن نتصف حقيقة بأخلاقها الحميدة، ونؤمن بمعانيها السامية، حصرها الكاتب بعد صولات وجولات فكرية رائعة في عدة فصول وصولا إلى نتيجة أخيرة صاغها في خمس وعشرين بند تتمحور حول إلزامية اتباع العلم بالعمل، والقول بالفعل، والتحلي بصفات التواضع والتسامح ونزول منزلة المخاطب، وعدم معارضة قوانين الفطرة، والتضحية وتحمل المعاناة والألم في سبيل الدعوة إلى الله… إلخ.

مما شدني في الكتاب ويستحق التنويه أيضا معالجة المؤلف لقضايا معاصرة بإسقاطات تاريخية ما كانت تفسّر بتلك الطريقة في مصادر أخرى، فلم تأت معارضة لها بل بالعكس مكملة ومثمنة لها، فمن هنا نجد أن اختلاف الرؤى ممكن من عالم لآخر طالما أن القضية اجتهادية مبنية على قرائن واستدلالات معينة، فتفسير بعض الظواهر الفكرية الإنسانية يدفعنا للتعمق أكثر وطرح الأسئلة التي تحتاج بدورها للبحث والتحليل، وهكذا نجد أنفسنا في جو علمي منير، يفتح لنا أبوابا طالما خلناها لا تنفتح.

الكتاب مترجم عن اللغة التركية من إصدار منشورات دار النيل التركية -مع الإشارة لمركز توزيع في القاهرة- وصلني في طبعته الخامسة مما يدل على قوة الطلب عليه وهكذا هي كتب دار النيل غالبا أو بالأحرى كتب الأستاذ محمد فتح الله كولن، فشكرا لمن دلني عليه، وأجره على الله بكل حرف قرأته واستفدت منه وعملت به إن شاء الله.

أنصح به كل من حيرته الأسئلة في كيفية التعامل مع الغير، خاصة من غير المسلمين ممن تلزمنا فيهم الدعوة بالحال أولا ثم بالمقال، فهؤلاء موجودون في شركات نعمل أو نتعامل معها، أو في قوائم اتصالنا في الإنترنت، أو حتى لمن نرى في إسلامه نوع من الشكلية والطقوس بعيدا عن الجوهر.

الكتاب فعال أيضا لكل أستاذ يحاول اكتساب مهارات أعمق في التعامل مع ما يطرحه أو يتصرف به طلابه من الشباب ومواقفهم من مسائل الحياة الفكرية عامة.

هو كتاب يحمل أسرارا نكتشفها بمطالعته، ويفتح أبوابا واسعة في فهم الآخرين، يدفع بالعفل ليفكر أكثر وأكثر، يبقى على قارئه أن يحمّس فكره ليعمل ويجسد أفكاره في أرض الواقع المتقلب.

هذه شهادتي القاصرة عن الكتاب، مع أني بعد إتمامي لقراءته سأعود إليه إن شاء الله مرة أخرى، فلا أدعي فهم كل فقراته حرفا حرفا، وإنما هناك ما تمنّع واشتد عليّ، ولا يتم تفتيته إلى بالتكرار والتدقيق.