نطالع أنواعا من الكتب، فكم هو ممتع هذا النوع، هو كتاب نفيس جمع عصارة تجارب، وأي تجارب؟ محطات عاشها إنسان في بلاد غير بلاده، ومحيط غير ما ألف وعاش، لم يكن مثل أغلب من سافر ويسافر، فقد كان لديه عقل وقلم، صاغ لنا منهما كتابا رائعا بعنوان: “من بنات الأسفار”.

الكتاب لمؤلفه الدكتور محمد باباعمي، مضت مدة على مطالعتي له مطالعة أولى، فيما حاولت في الثانية أن أكون أكثر تركيزا وتحليلا، فكان بعضها في مكتبي، وأخرى في لحظات الانتظار هنا هناك، هو حقا من الكتب الممتعة التي تجعلك تغبط الكاتب ومرافقيه على تلكم اللحظات الرائعة في سياحة علمية هادفة.

تطرق المؤلف في ثنايا كتابه إلى أربعة محطات من سفرياته، في كل محطة كانت له تأمّلات وتحليلات، آهات وصرخات، كلها تصب في قوالب فكرية راقية، في إطار منظومة الرشد، بطريقة مؤثرة تخاطب الجنان وتطلق العنان للبحث عن حلول ذلك الكم من الإشكالات التي تبادرت لذهنه كل مرة، هذه المحطات كانت بدايتها ببلاد الفرس إيران مثمثلة في “الرحلة الفارسية” ثم إلى “الرسالة الدمشقية” من سوريا، بعدها إلى أقصى الغرب في كندا مع “تجليات كندية” وأخيرا إلى تركيا في جُملة مقالات بعنوان “فاتح القسطنطينية”.

أما عن أهم ما ميز مطالعتي لهذا الكتاب فهي جملة ملاحظات، أردت مشاركتها كل من شده الفضول أو ساقه الاهتمام لينهل منه، فجاءت كما يلي:

  • كقارئ تحس بين ثنايا الكتاب مخاطبة الكاتب للقارئ من مستوى الإعجاب، وهذا ما لا يستسيغه الكثير من الناس، فيأخذون الأمر بغيرة ساذجة، وينكرون في من يعجب ببلاد غيرهم إعجابا يرونه استنقاصا من بلادهم وكفرا بنعمها وكنوزها وفضائلها، إلا أن الكاتب أبعد من هذا المستوى، فما كان دافعه في هذا إلا الحرقة على حال بلاده وأمته، وما كانت تلك الانطباعات سوى تأسّيا وطموحا وأملا في أن يجده الجميل منها واقع حال يعيشه هو أيضا يوما ما.
  • عندما تطالع الكتاب تجده مجموعة قصص واقعية مطعّمة بمقارنات، وتساؤلات، ففي كل محطة زارها الكاتب سواء كانت معرض كتاب، أو فندقا، أو جامعة، أو مطعما، أو مرفقا من المرافق السياحية، إلا واستحضر عظمة الخالق، وحقيقة سننه الكونية التي لا تحابي أحدا، ولا اعتبار لها للمسلم من غيره، إلا في “الرسالة الدمشقية” فقد انتهج الكاتب طريقة أخرى وجاءت مقالاته فكرية صعبة المراس مقارنة بالأخرى، فلم يحك فيها الكاتب تفاصيل كثيرا عن زياراته لأماكن معينة، بل كانت خواطر معنويّة، ورسائل مشفرة تارة وصريحة تارة أخرى، في حقيقة الأمر لم أفهم الحكمة من ذلك، ولماذا جاءت فقرة سوريا على غير ماجاءت المحطات الأخرى؟
  • ما يستفاد أيضا من الكتاب كونه جاء كدليل سياحي في شكله العام، إلا أنه يحتوي على ما وراء ذلك من فوائد ورسائل مضمرة يحسّ بها أي قارئ بطريقة عفوية دون أن تسيء للمضمون، أو تخلّ بالمعاني أو المباني.
  • تلاحظ عاطفة الكاتب تجاه “غير المسلمين” في يومياته جلية بطابع الشفقة وحب الخير لهم، ودعوة الله لهدايتهم، وهذا ما يقتقره الكثيرون غيره، فنجد قصصهم حول ممارسات غيرهم كلها تُهَم بالنقص والتقصير والضلال، حتى إن كانوا مسلمين خالفوهم في بعض فروعهم فما بالك بالأصول؟
  • كما نعلم فمن آداب الضيف أن يحسن ذكر مضيفه، فضلا عن شكره، فكم هو جميل أن نشكر من أحسن ضيافتنا سواء كان شخصا أو مؤسسة أو دولة بأكملها، وهذا ما لمسته في ما حواه الكتاب، فدول مثل إيران وتركيا وسوريا وكندا كلها أحسنت ضيافة الكاتب ومرافقيه، فكان من بعض رد الجميل أن كلّف الكاتب نفسه عناء تأليف كتاب كامل عنها، ولم يتطرّق للسلبيات ومواطن النقص وإن توفّرت فليس في ذلك أية فائدة، ولا هدف!

إلى هنا أشكر الكاتب شكرا جزيلا ولا أزيد أكثر، حتى لا أعطي انطباعا ناقصا – ربما – عن الكتاب، فلكل قارئ له مستواه وسقف فهمه، فما أخافه أن يسيء انخفاض سقفي لعلوّ مستوى الكاتب والكتاب معا، فنصيحتي لكم باقتنائه ومطالعته، وذلك باشتراككم في “بطاقة كتابك” المقدمة من شبكة فييكوس نت.

بعد فراغي من مطالعة الكتاب، فإني أقدمه كجائزة مساهما في مسابقة مدونة قرأت لك الرمضانية، والتي ينظمها الصديق قادة زاوي ومن معه، أدعو الله لهم ولكل مشترك فيها بالتوفيق والنجاح.