المراهقة أشد مراحل العمر إثارة للجدل والبحث مما أدّى بدراستها والتعمق في حيثياتها من تخصصات عدة، وحتى التعامل معها بشيء من الحذر، هذه المرحلة التي تبدأ في مرحلة معينة من العمر وتنتهي بالانتقال لمرحلة أخرى هي الرشد في الحالة الطبيعية.
لكن ماذا عن المراهقة إلكترونيا والتي ليس لها حدود عمرية بينما تتجلى مظاهرها في تصرفات صاحبها وإن كان طفلا أو شيخا هرما في عمره! فلو ندخل كلمة “المراهقة” في إحدى محركات البحث في الأنترنت، فإن النتائج والمصادر ستتراكم علينا بقراءات متعددة للموضوع، كلها تصب في قالب واحد تقريبا، فمن قائل هي مرحلة عمرية وسيطة بين الطفولة والرشد وهي الفترة التي تسبق اكتمال النمو الجسماني والعقلي، ومن قائل آخر أنها أكثر المراحل إزعاجا بكون التغيير فيها يكون ملحوظا وبيّنا، هذه التعريفات وغيرها تفيد أنها مرحلة اضطرابات نفسية وتحول من استقرار الطفولة إلى استقرار الرشد.
لا أخوض كثيرا في التعريفات العلمية والاجتماعية، بينما أركّز على ما بدأت به أولا بكوني استعملت مصطلح المراهقة هنا تجازوا لأضيف إليه كلمة “إلكترونيا” والتي أعني بها حياة الإنسان الافتراضية على غرار الحياة الحقيقية الطبيعية، فالمراحل العمرية في الحياة الافتراضية أمر مغاير تماما ويمكن أن يختل فيها الترتيب رأسا على عقب، كأن يبدأ أحدنا مسيرته في الأنترنت شيخا ثم مراهقا ثم طفلا ثم كهلا أو شابا وهكذا، هكذا هو العالم الافتراضي غريب بغموضه، هذه المظاهر تقاس وتكتشف من خلال تعامل الشخص وسلوكه على الشبكة العنكبوتية.
للمراهق إلكترونيا عدة تصرفات تجعله يستحق هذا الوصف بامتياز، بغض النظر عن ما يكون في حياته العادية، سواء مراهق حقا، أو قد سار أشواطا في مرحلة الرشد والعقل، أما الطفل الصغير فلا لوم عليه كونه يتصرف بقصر نظره لعواقب الأمور، وفي تعابيرنا العامية نرجع كل تصرف بليد غبي لكونه “عمل أطفال” أو “لعب عيال” على الرواية المشرقية، لذا فالصغير خارج القصة تماما وعلى ولي أمره أن يرشده ويعلّمه التصرّف السليم الذي ينتهجه من خلال استعماله الأنترنت.
- المراهق إلكترونيا هو ذلك الذي تجده في صفحات الفيسبوك، واضعا صورة شخصية لا تمت بصلة لفكره ولا دينه ولا أصله حتى، أو ناشرا صورة ملتزمة لقدوة دينية أو شخصية معروفة بالطهر والنقاء، إلا أن صاحبنا المراهق لم يحترم الصورة التي وضعها وذهب يبث سموما في كتاباته ويلطّخ حائطه بقمامة أفكاره، يتشارك أقوالا ومقاطع فيديو تصغّره أعواما، فرغم كونه ملأ سجل معلوماته بشهاداته الجامعية، وميولاته الهادفة واعتقاداته المحترمة إلا أنك تجد انفصاما واضحا بين ماهو معجب به وما يكتب من آراء وانطباعات وينقل من أخبار للفسّاق وينشر صورهم وتفاصيل حياتهم.
- المراهق إلكترونيا هو ذلك الشخص الذي يقتحم بريدك الإلكتروني اقتحاما، فيتحفك تارة بفوائد من كثرتها تصبح إزعاجا ونقما، وتارة أخرى يرسل لك محتوى غريبا مناقضا لما أرسل لك سابقا، يميل حيث تميل الرياح ولا يثبت على رأي معين، مهمته التوصيل فقط دون مراقبة ما يبلّغ، فهذا خبر لتلك المغنية، وتلك دعوة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصلّ عليه فترقب مصيبة بعد ثلاثة أيام ونصف!.
- المراهق إلكترونيا هو من الذين لا يستحون من الدخول عبر خدمات التواصل المباشر كالسكايب أو دردشة الفيسبوك، يراسلك رغما عنك ودون إذن أو معرفة مسبقة، إن لم تجبه لسبب أو لآخر صبّ عليك كل غضبه وأفرغ كل ما حوى صدره من قبيح الكلام، مما حفظه ومما لم يفعل، استعماله لبرامج الدردشة ليس لفائدة التعلم والتكوّن إنما لأغراض عبثية فارغة الكل على علم تام بها.
- المراهق إلكترونيا هو الذي يستعمل تقنية الأنترنت بما حوت في الجانب السلبي، وفيما يهدم الثقافات ويهدد المفاهيم البنّاءة، ولكثرة هؤلاء أصبح الناس عامة يرون الأنترنت شبحا يهدد كيان بيوتهم، يتخوفون منها تخوفا هيستيريا، وهم لا يدورن أنه مثلها مثل أي سلاح ذو حدين موجود لديهم مسبقا، كوسائل الاتصال والترفيه المعروفة والمتداولة.
- المراهق إلكترونيا هو ذلك الكائن الفطري الذي يعيش على عرق جبين الآخرين، ينقل مقالاتهم حرفيا دون إذنهم أو على الأقل ذكر الاسم أو المصدر، همّه تقمص الأدوار، وهوايته الظهور بثوب المثابر والمجتهد، المشكل كسابقيه أمثاله موجودون بعدد معتبر نرجو أن يتناقص عددهم لأن زوالهم مستحيل فهم مما يحفظ توازن البيئة الافتراضية ويدفعها للاستمرار بتحدّ وثبات.
هذه مجموعة أصناف من المراهقين إلكترونيا والأكيد أن هناك العديد من الحالات التي لم أذكرها، المهم لكل داء دواء، أما الدواء فيمكن أن يكون بسيطا بمع البعض بالمنع والحظر من قوائم التواصل، كما يمكن أن يتعقّد أكثر عند محاولتنا تجربة الإقناع والدعوة للعدول عن إحدى هذه الصور المظلمة، عسى يوما أن نجد عالَما افتراضيا نظيفا يغلب عليه جانب الطيبة وحسن النية مما يشجّع كل قادم إليه ويحسّ فيه بالأنس ويقرّر البقاء أطول مدة ممكنة دون أن يخاف على نفسه ويلات المراهقة الإلكترونية!
Comments (15)
أوافقك الرأي في كل كلمة أوردتها، ولكني سأتناول في ردي المراهق الحقيقي أو الطالب بشكل عام، بحكم خبرتي في هذا المجال، ولأنني أرى أن الحل لهذا الواقع الافتراضي الذي طرحته يجب أن يبدأ من المدرسة.
في الواقع أن الكثير من المؤسسات التعليمية في بلادنا العربية -ولا أعمم هنا- تنافست في إدخال التقنية، وتجهيز المختبرات واستغرقت في مناقشة التصميم الأنسب لها وأهمية توفير الشبكات ومواصفات الأجهزة والأثاث.. الخ، وأهملت الجانب الأهم وهو تعليم طلابنا أسس ومبادئ وأخلاقيات استخدام التقنية. وكأن توفير التقنية و ربط المدارس بالانترنت كان هدفا بحد ذاته دون التفكير في الغاية من هذا الهدف. لذا نجد مناهج التقنية -إن وجدت- تركز على كيفية استخدام برامج تحرير النصوص والعروض التقديمية والجداول الحسابية وقواعد البيانات وبرامج الرسم والتلوين.
اعتقد أن طرحنا للتقنية في المدارس بحاجة إلى إعادة نظر، على أن يأتي غرس القيم والمبادئ قبل تعليم مهارات البرمجيات، فلكي لا نرى بحوثا منقولة بالنص والنقطة والفاصلة من الانترنت في مدارسنا، يجب إن نكسب طلابنا المهارات الأساسية في البحث العلمي وكيفية استخدام الانترنت كمصدر من مصادر التعلم، لا كمصدر للنقل، يجب أن نعلمهم أن للمواد المنشورة على الانترنت حقوق نشر ولا يجوز لنا استخدامها دون مراعاة هذه الحقوق، يجب أن نغرس فيهم أهمية المشاركة والمساهمة في محتوى الويب، وأن لا يكونوا مستهلكين فقط غير منتجين، يجب أن نعلمهم احترام الطرف الآخر وأسس وأخلاقيات الحوار في المنتديات والشبكات الاجتماعية. يجب أن ننمي في أبنائنا القيم الأخلاقية والرقابة الذاتية وتحمل المسئولية..
فلتساهم المؤسسات التعليمية في بناء العقول لا بناء المختبرات فقط.
وأعذرني على الاسترسال في الرد .. فقد احسست بأن هذا الموضوع يخصني.
عين الصواب ما تسرد:
لقد جعلوا من الأنترنت مكانا إما للدردشة أو….
صراحة هذا هو التعريف العام للنت عند العامة، فتصرفاتهم من كثرة قبحها تؤذي الجميع.
الصورة الشخصية الأفضل لهؤلاء هي “مقبض باب” لأنه لا يملك اتجاها ثابتا فأحيانا مستقيم وأحيانا في إحدى الجهتين أو ربما في أسوأ الحالات منزوع ما له من قرار.
سلام
مقال و الله رائع ،بورك فيك اخي جابر
و لكن لم تكثر الحديث عن الحلول فما ذكرت ماهي الا حلول مؤقتة
شكرا مرة اخرى ، تحياتي
وعليكم السلام عبد الحفيظ، أحيانا في التدوين الأحسن نعتمد تقسيم الأدوار، يعني أنا ذكرت الإشكالية فيما تأتي الحلول من خلال الإثراء من أمثالك المجرّبين في مجال الأنترنت فمنك نستفيد.
سلام
شكرا اخي جابر على التعقيب ، و لكن للاسف لا اعتقد اني صاحب خبرة او ما شابه ، فانا معروف بأني شخص غير اجتماعي و لا اخالط الكثيرين ، و تجربتي ربما قد تكون محدودة ، و الحلول التي استعملها هنا قد تكون بخيارات ثلاث : الكلام و الحوار فان لم ينفع فالحزم اكثر ، و ان تمادى فالحظر النهائي ، الذي قد اعدل عنه في حالة بروز شيئا من النضوج … فان عاد عدت بلا عودة تعني حظر نهائي …. سلمت يداك اخي جابر
تحياتي
أظن أن من أسباب كثرة المراهقة الانترنتية في بلاد العرب هو كونها لا تزال جديدة، وأتوقع أن تخف الظاهرة بانتشار الانترنت في كل مكان بأسعار زهيدة، بحيث تصبح أمرا عاديا جدا، فقد مرت فترة سابقة انتشرت فيها مراهقة القنوات الفضائية وخفت كثيرا بعد انتشار الستلايت في كل بيت حتى بيوت الفقراء المتقعين.
و الله العظيم صدقت يا أخي جابر , كل يوم تقريبا اصادف نماذج من هؤلاء الحمقى الذين يشوهون منظر الانترنت بحماقاتهم التي لا تمد بأي صلة الى الثقافة و الفهم و الحكمة
تدوينة جميلة جدا .. وضعت يدك على جرح .. لكن هذا عالم الانترنت مليئ بالمتناقضات .. الخير والشر .. الحسن والسيء.
اسأل الله أن يضع الجميع مخافة الله بين عينيه .. وأن يوفقهم لما يحب ويرضى
نسأل الله السلامة.
أجد أن المراهق الإلكتروني عبارة عن متّبع أعمى، فتارة يريد أن يظهر ما تخالجه مع مشاعر، و تارة يظهر للناس أنه شخص سوي (و أجوف من الداخل) 🙂
اللهم اهدِنا
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته :
فقد أبهرني موضوعك أخي جابر على هذه الفصاحة و الوضوح في الفكرة .
فبارك الله فيك .
بورك فيك وبورك في قلمك والحمد لله على نعمة الأخوة حقا هي مفخرة نعتز بها دمتم بود
أشكر الأخ جابر صاحب الموضوع على طرحه الجميل لواقع مر، وإزالة الضباب والغشاوة على بعض التصرفات والظواهر وتسميتها باسمها الحقيقي بحيث لا يماري فيها منصف ذا قلب واع حي، كما أريد الإشارة فقط إلى نقطة جزئية عابرة في الموضوع حيث قلت أن الناس يتخوفون من الانترنت خوفا هيستيريا، وهم لا يدورن أنه مثلها مثل أي سلاح ذو حدين موجود لديهم مسبقا… فأقول أنه من حيث المبدإ فنعم هي كذلك، أما من حيث الخطورة وهو السبب في الخوف الشديد، فهي فعلا خطرة بشكل لم تسبق إليه أسلافها من وسائل الإعلام والاتصال _ودون أن أفصّل_.
وأشكر الأخ NHorizon على تعليقه، ولا إشكال في الإطالة فالفكرة قد تحتاج إلى ذلك، وأنت في العموم تريد تجسيد الحكمة التي تنتهجها بعض المؤسسات وتجعلها شعارا لها فتقول: “التربية قبل التعليم”، وعليه تكون التربية والأخلاق هي الهدف الأسمى وقبل كل شيء، ليس كما أشرت فقط أن يكون غرس القيم والمبادئ قبل تعليم التقنية والمهارات، بل قبل كل تعليم، وحتى قبل تعليم حرف من الحروف، لتستحق أن يقال لك: “من علمني حرفا صرت له عبدا”، وإلا فلا تلم أحدا لم يقلها لك بعد أن علمته التقنية، وحينها تأكد أنك فقط تجني ثمار ما زرعت..
السلام عليكم
لقد وفقت في إختيار هذا العنوان أستاذ جابر و أبدعت في العرض و هذه الأصناف تمثل عقد المجتمع حيث أنهم يريدون إثبات شيء ولو إفتراضيا و لو كان لا أخلاقيا و سلبيا..أنا أرى أن مراهقوا الأنترنت مرضى نفسيون يعانون في الواقع لهم قصر في كل المفاهيم الدينية و الإجتماعية كما أنهم لم يستشعروا و يفقهوا معنى الآية الكريمة “”مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”، إذن هو خلل في الرقابة الذاتية للفرد أساسا و التي تنبثق عن عدم وعي بالرقابة الإلاهية.
بارك الله فيك.
لقد قلت كل ما ينبغي أن يقال.
كل استغلال لأي وسيلة إنما يعبّر عن شخصية المجتنمع المستغلّ لها وأفراده لا عن الوسيلة بذاتها.
لذاك بدت عيوب الانترنت في العالم العربي وغطت عن كنوزها وبدت عيوب الرسيفر و الهاتف النقال وتكنولوجيات البلوتوث وكل شيء حتى المرافق والخدمات.
أظن أننا في جو أكثر تنافسية قد نشهد اهتماما بطبائع المجتمعات لإنتاج منتوجات على مقاييسها.