ينشأ الشاب في محيطه العائلي المصغّر والموسّع، ويكبر بين ثنايا مجتمعه، ويتعلّم تقاليد وعادات من حوله، ويتلقى في أطوار الدراسة تربية وعلما، بين كل هذا وذاك يرى بأعينه ويسمع بأذنيه بإن مجتمعه ومحيطه استثمرا فيه كل ذلك الجهد ليرد بالمثل لمن بعده ويجتهد ليكون شابا ورجلا اجتماعيا.
من هو الشخص الاجتماعي؟ وكيف نكون اجتماعيين؟ هل بالاكتساب أم بالفطرة أم بالوراثة؟ أسئلة تتبادر لذهن أي منا كل مرة، أحاول أن أبسّط في هذه الأسطر القليلة بعض المفاهيم وأضعك أخي القارئ في الصورة لتواصل الاكتشاف والبحث وتفيدنا إن أمكن بإثراء الموضوع والتوسع فيه.
في المناسبات التي مرت والتي ستأتي إن أطال الله في العمر، تجسدت الكثير من الصور أمامي من أناس وشباب وشابات يقومون بالعمل الاجتماعي، ببساطة يقومون بأنشطة ومبادرات لا تأتي عليهم بالنفع بالدرجة الأولى ولكنها تفيد غيرهم، أما ما سيعود عليهم هم فهو ثواب الله ورضوانه بالدرجة الأولى، ثم يجدون صدى ما قدّموا في تصرّفات غيرهم تجاههم حين يكونون في منزلة الحاجة.
صور العمل الاجتماعي تتجسّد مثلا في من يبذل نفسه أو جهده أو ماله أو وقته للإشراف أو التخطيط أو التسيير لمشاريع بناء مؤسسات خيرية، أو كان في لجنة لجمع الصدقات وأموال الزكاة ثم تفريقها على من يستحقها دون طلب أي جزاء أو شكر، أو كان مرابطا في حراسة أملاك الناس، وهو ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: “عينان لا تمسهما النار أبدا، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”، أو كان مشرفا على مجموعة شباب ضمن نشاط معين في جمعية ما باختلاف المجالات والتخصصات، أو… أو… صور العمل الاجتماعي لا تعد ولا تحصى.
لنتأمل قليلا في ما ذكر من مجالات العمل التطوّعي ونجد أن صاحب المال والجهد والرأي والفكر والخبرة كلهم مندرجون ضمن تلك الأنواع، فلا عذر لأحد للتراخي، كما أن حسابات الله في هذا الأمر ليست كما نتصوّر أو نتعامل نحن، فعمل بسيط من شاب أبسط أثقل عند الله من مبالغ طائلة ينفقها رجل غني لبناء صرح خيري معين إن كان الأول مخلصا والثاني غير كذلك، إذن العمل الاجتماعي أمر بين العبد وربّه فقط.
لكن هل كل من يقوم بفعل لغيره يعتبر اجتماعيا؟ الأكيد لا، فهناك من له مآرب دنيوية وراء ذلك، وهذا خلاف للأصل، كأن يكون عمله رياء، أو مقابل مصلحة ضيقة، أو مضطرا مكرها فقط، فهؤلاء نجدهم ممن لا يألفون ولا يؤلفون، كما أنهم لا ينتظرون خدمة الناس لهم، كونهم لم يزرعوا تلك البذور التي يطمعون يوما أن يقطفوها ثمارا من غيرهم يوم تنقلب موازين الحياة وما أكثر انقلابها، فاسع للخير في سعتك قبل ضيقك.
إذا أردت أن يخدمك الناس اسع لخدمتهم أوّلا محتسبا مخلصا وباستمرار، فالعمل الاجتماعي أصله النية لله وحده المطّلع على القلوب والنوايا والمحاسب على الأفعال، فأي منا يمكن أن يكون منذ صغره إلى مماته نشيطا فاعلا في مجتمعه الذي ربّاه وأنشأه، أو في أي نطاق آخر، فعمل الخير ليس له حدود.
أما عن الطريقة، فهناك نوعين في عصرنا الحالي، أولهما العمل الاجتماعي في مؤسسات خيرية عرفية عريقة، تعمل بأسلوب عفوي تحكمه عدة ضوابط وأنظمة محكمة، لم تبق آثارها إلا في المجتمعات المحافظة خاصة في القرى والأرياف، أما النوع الثاني فتوفر في المدن التي غزاها (التحضّر) – بالمفهوم الغربي – حيث فقدت كثيرا من ميزات النوع الأول، ثم سعت لاستعادتها بطرق أخرى حديثة تؤدي دورا مفيدا وهاما بالرغم من كونها أقل تأثيرا ومن هذه الطرق الحديثة:
- الجمعيات المهتمة بنشاط الشباب لتأطيرهم وهي ذات طابع رسمي وبترخيص من الحكومات ومراقبة منها، فرغم كونها تصحيح واستدراك لما قد فات، إلا أنها تعويض مهم ومفيد يمكن تكييفه لخدمة المجتمع.
- أفواج الكشافة، – وقد كنت عضوا فيها -، إذ لم يكن غريبا عنا في مجتمعنا ما تدعو إليه من أهداف سامية كوننا رضعناها مع حليب أمهاتنا، فشخصيا استغرب كون الكشافة تأسست أول مرة في أوروبا ثم أتت إلينا، ففي الأصل تلك الحملات التطوعية والرحلات موجودة عندنا مسبقا بمسميات أخرى فقط، المهم أن الكشافة أصلا مشروع جيد ومنصوح لكل شاب يريد صقل مواهبه وإبراز طاقاته، والترفيه عن نفسه بعيدا عن ظروف الحياة ومشاغلها ومتاعبها.
- الفرق الرياضية التي تجمع الشباب في ما يفضّلون من هوايات، ككرة القدم والكراتي والجيدو وغيرها، فبالإضافة لإقامة التدريبات والمقابلات، يضاف إليها حملات تطوعية وزيارات للمرضى وإعانات لهم بالتبرع بالدم أو المال أو الدواء، الفكرة في أصلها إيجابية وتحمل أكثر من معنى، فكم هو جميل حين نرى شعارات الأندية الرياضية ولو كانت في مرحلة الهواية تحمل معاني التربية والوحدة والإخاء، علها تغيّر واقعا مرّا تعيشه الرياضة في أوطاننا حيث غابت الأخلاق أولا ثم لحقت بها المهارات والعاقبة للباقي.
- مرحلة الخدمة الوطنية التي تفرضها الدول على شبابها، سعيا منها لغرس حب الوطن وخدمته والدفاع عنه بكل ما أوتى الشاب من قوة، لنسأل من أدّاها عن تفاصيل الحياة فيها نجد أن فكرتها العامة تدور حول تقديم مصلحة الغير (الوطن) أولا ثم المصلحة الشخصية، وبغض النظر عن تحفظاتنا حولها من بعض ما فيها فهي في الأخير حل فرضته الدول في هذا الصدد.
- دعم بعض الحكومات – مثل أمريكا – للشركات الاقتصادية التي تدعم الشباب وترغّبهم على العمل الاجتماعي، فلا تستغرب أخي لو تسمع بشركات أمريكية أو أوروبية تمنح الأموال الطائلة وتبذل الغالي في سبيل إرشاد الشباب والأخذ بيدهم للعمل الخيري التطوّعي، كغرس الأشجار، وأنشطة المحافظة على البيئة، فذلك بدافع اقتصادي بحت، فعوض أن تتكفل الحكومة بهذا الأمر المرهق حيث يعتبر ثقلا عليها، ابتكر المفكّرون هذا الحل، وفضّلوا أن يفيضوا على كل شركة تقوم بمشروع لفائدة الشباب، أو تعفيهم ضريبيا مثلا، فعلى الرغم من معرفة المنطلقات والدوافع التي ربما ليست من مقصد العمل الاجتماعي، إلا أن هذا لا يمنع من الاستفادة من التجارب الرائدة، وتكييفها مع ما تقتضيه الأحكام الشرعية والعرفية عندنا، مع أني أرجو ألا نبقى دائما في مرحلة الاستيراد والانتظار بما يجود به علينا الغرب عن طواعية أو بمقابل، فالأصل فينا أن نبدع وندعو غيرنا ليقتدي بنا، لا أن نكون مستهلكين قاعدين قانعين.
أظن أن هذه الصور كافية لإبراز تطوّر العمل الاجتماعي مع تطوّر الزمن، ووجود أخرى بالتأكيد لا يتّسع المقام لحصرها، فمما ذكر نرى أن كل تلك الحلول ماهي إلا عودة لما تم فقده من قبل، بإقامة مؤتمرات عالمية وإنفاق مصاريف باهظة لاستعادة روح غائبة في بعض الأوساط، ونحن نتنعم بها – في بلدتي – من آبائنا وأجدادنا والحمد لله، فإن لم نركّز عليها ونجتهد في تطويرها ضاعت منّا ولا ينفع الندم حينها، فكم يؤسفني حين أسمع شابا يتنكر لتلك المؤسسات والأعراف العريقة التي لولا أن رجالها كانوا اجتماعيين ما وصلت إلينا، فلنتق الله فيما بقي بين أيدينا ولنبلغه أمانة لمن بعدنا، وويل لمن تكسر في يده البيضة.
مرحلة الشباب طاقة غزيرة فياضة، إن أحسنا استغلالها كانت فتحا ودفعا للأمام لعجلة تطوّر مجتمعاتنا، أما إن كسرناها أو أرقناها فيما لا يعني، فالخسارة تعمّ الجميع، ولكلّ مثال صوره الحيّة الموجودة المجسّدة أمام أنظارنا، فلتختر أخي الشاب أي مسار تتخذه، ولتكن سباقا للخير، لتنال رضوان الله تعالى وهي أسمى غاية للمؤمن من كل حياته.
Comments (3)
بارك الله فيك أخي جابر على هذه المقالة .
اعجبني انك اعطيت الموضوع حقه ، وحللت وفصلّت ، لديك نفس طويل في الكتابة المقالية ربما يكون مهماً أحياناً وربما يكون عائقاً أمام القارئ أحياناً..
مفهوم أن المجتمع يربي ابناءه ليعودوا بالنفع عليه من جديد.. مفهوم مهم وأخلاقي وقبل هذا حضاري..
مفهوم أن يحتسب أحدنا أعماله لأهله وجيرانه وأقربائه ويخدمهم دائماً.. مفموم إسلامي ويعالج الكثير من مشاكل الروح..
شكراً لك أخي جابر ..
عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
حقا أخي جابر إنه موضوع قد تخصص فيه العلماء و طرحت فيها دراسات تخرج جامعية لما له من أهمية قصوى في بقاء وفناء المجتمعات و حتى الحضارات بكاملها .
لماذا ذم الله تعالى اقواما وشعوبا ؟ ببساطة عندما تمكنت فيهم صفة الذاتية الفردية وعدم الإهتمام بشؤون الآخرين وهو حال العرب في الجاهلية .
وصرختك للشباب وهي من شاب عرف فالتزم هي سر نجاح من سبق.
فلا يؤثر بقوة في الشباب إلا الشباب