عشت يوما في وطني الجزائر لا كالأيّام، حينما علت بشائر حفل الوسام في طبعته السابعة، وبدت لنا أنواره تتلألأ علما وحبّا وشوقا، هم أبناء وطن زيّنوا لحظاتنا بطيب إخلاصهم، وأشعلوا في دواخلنا فتيل التسابق نحو القمم حينما أعلنوا عن متوّجي هذا العام وفي كل منهم مدرسة لا تكفي السنين للاغتراف منها.
نعم للجزائر علماؤها… Oui, l’Algérie a ses savants بهذا الشعار الملهم المحفّز امتلأت قاعة التكريم عن آخرها، بشباب ورجال ونساء وفتيات من مختلف المشارب والتخصصات جاؤوا ليحتفوا بالعلم وبجدّدوا العهد بأهله، كما وفدوا ليشحنوا مزيدا من الأمل، وينعموا بثمار وطن ولود ودود لازال يئن تحت وطأة معاول الهدم والتيئيس من شطر من أبنائه، وطن ثري بالجودة والكفاءة، اسمه الجزائر.
التنظيم محكم واختيار المكان كان مناسبا جدا، والأكثر من ذلك والأهم هو حسن انتقاء المكرّمين، والإبداع في طريقة تكريمهم، فلا الغاية في حجم الجائزة المادية كما يسوّق إلينا في تظاهرات مغايرة، ولا الهدف الأكبر هو التباهي بما أنتجته أقدامهم أو حناجرهم في حفلات هنا وهناك مما يخرج عن فطرة الإنسان ويصادمها، إنما المكرّمون اليوم هم حملة العلم والأخلاق، أمراء الإخلاص والقيم الرفيعة.
حفل وسام العالم الجزائري أخذ أبعادا كبيرة، وحاز في نفوس حاضريه على مساحات شاسعة غرسها أملا ورغبة للمزيد من الإنتاج والفعالية، فالجزائر أمّنا تنتظر منا الكثير، ولا تقّدم لأمّة إلا بعلمائها، ولا فلاح إلا بالاصطفاف جماعات وراء ثلة من العلماء المخلصين، فطوبى لمن وعى الدرس واستوعب المواقف.
الجميل في حفل الوسام تلك الجموع من الحاضرين بمختلف مستوياتهم الثقافية والعلمية، ومشاربهم السياسية والاقتصادية والفكرية، فالكل في صعيد واحد لتكريم العلم والعلماء، وحولهم شباب كالنحل يقوم بمهام التنظيم وتسيير الحدث باحترافية منقطعة النظير، إلى منشّط متمرّس فصيح أضفى مذاقا خاصا للحدث، ودائما ما نقرأ ونعيش واقعا تأثير التحضير الجيد على التنفيذ الجيد.
ودائما مع ذكر مميزات النسخة السابعة لحفل وسام العالم الجزائري وهذه المرة مع استحداث جائزة “الجماعة العلمية” فضلا عن جائزة العالم الفرد، وهذه في رأيي فطنة وقادة من المنظمين لهم كل الشكر، فالبركة في الجماعة، والعمق في المجموع، وهذا بتصريح العلماء أنفسهم، وكم كانت ندوة قيّمة تلك التي أقيمت قبل الحفل الرسمي بيومين مع “فريق البحث العلمي لجمعية التراث” من مدينة غرداية “مزاب” المتوّج بجائزة هذا العام، وهم رجال مخلصون عباقرة خبرتهم بنفسي وتشرفت بمعرفتهم عن قرب ذات أعوام.
ندوة كانت ودّية حميميّة عادوا فيها لزمن غابر حينما بدأوا أولى خطواتهم في درب البحث الجماعي الذي كان غريبا ذلك الوقت وحتى اليوم في سياقنا تقريبا، فاستفدنا من فيض تجاربهم، وباحوا بالعديد من أسرارهم التي كانت سببا لتفوّقهم وبلوغهم الأهداف، كما تركوا كل طالب علم واع يعيد التفكير في مساره الدراسي ويبحث عن أولى خطواته في ذلك المسار المرصّع بالجواهر والألماس.
أمّا المكرّم الثاني وهو البروفيسور “أحمد جبّار” فحقا تصدق فيه كل صفات العالِم الحضاري، وليس غريبا عليه ذلك إذا علمنا أنه قرّر أن يكون عالما متميّزا حينما كان في العام الخامس من دراسته، وقد أمضى منها ثلاثا يذهب للمدرسة متنشيا آملا وهو دون حذاء ينتعله، ولا محفظة تحفظ كتبه إلا كيسا بسيطا خاطته له والدته، وفي قصّة حياته عبر شيّقة أترككم للغوص فيها بالبحث عنها.
مضت لحظات الحفل سريعة وليته لم يختتم، فكلمات مدوّية عميقة كبّدت سامعيها بعض العبَرات، وألهبت فيهم حرقة العلم، وأجّجت مشاعر التسامح والمحبّة، فشكرا لمن أتحفنا بكلماته العذبة النابعة من قلب حيّ نابض بالفكر البنّاء، وعقل نيّر يشعّ بالضياء.
في المساء كان الموعد مع البراعم والطفولة، إذ لم ينس القائمون على التظاهرة نصيبهم، فحاضر البروفيسور المكرّم أحمد جبّار تلاميذ من حوالي 75 مدرسة جزائرية بإبداع وكفاءة عاليين، وبمبدئه بالمحاضرة واقفا تواضعا منه تألق وأخذ بلبّهم ونال استحسانهم وتقديرهم، وبالتّالي حاز اهتمامهم وغمرهم بأخلاقه التي ستترجم رغبات ومسارات في حياتهم، فلا أجمل من الاستلهام والتأثّر بالعلماء.
جديد هذا العام تمثّل في الحجم الإعلامي الذي أخذه حدث الوسام مقارنة بسابقيه، فوسائل الإعلام حضرت بشكل لافت، وأدّت تغطية كاملة في أغلبها تقريبا، مع أنّي لم أطّلع على ما تمّ بثّه أو كتابته عن الحفل إلا قليلا، وفي حضورهم مؤشّر إيجابي يدلّ على اهتمامهم بالتظاهرات العلمية الراقية أمثال الوسام.
الجلوس للعلماء يطوي مراحل دراسية طويلة، والنهل من معينهم يغني عن الكثير من الدروس النظرية، وفي جمع كل هذا وذاك طبعا فائدة كبيرة، وفتوحات نوعية لا يدرك مغزاها إلا من يعرف حقّا ما المطلوب منه، وكيف؟ ولماذا؟
هي خاطرة جالت في ذهني وكتبتها بمناسبة حفل وسام العالم الجزائري المقام بفندق الهلتون بالجزائر العاصمة يوم الخميس 15 نوفمبر 2014.
————————
في مقالة منفصلة أكتب عما استفدته من البروفيسور أحمد جبّار من خلال محاضرته ومدخلاته بمناسبة التكريم، فترقّبوها قريبا.