هناك جملة أحداث دورية تشد أنظار العالم من حين لآخر، إما وطنيا أو قاريا أو عالميا، فمن الناس من يستنكر ويظل يعارض ويندد، ومنهم من يتملّكه الشغف فينغمس بكل جوارحه متابعا لأدق التفاصيل مما وقع وسيقع، الإعلام يلعب دوره بإحكام في كل هذا فيركّز النظر على جزئيات من الحدث ويغفل أخرى، وبين النقيضين هناك فئة تستثمر أمثال هذه المناسبات بالقدر الذي يفيدها.

بصفة عامة يحدث هذا سواء في الرياضة أو السياسة، في الفنون أو الاقتصاد… إلخ، وفي كل منها منافع وأضرار للناس ومآرب أخرى، ولعلّ أبرز ما يجذب الأنظار حاليا هي بطولة كأس العالم لكرة القدم، أو ما يسمى بالمونديال، فقد اختيرت البرازيل مسرحا له هذه المرة، والكل يستحضر كرة القدم ونجومها إذا ذكرت، وهذا في حد ذاته اختزال سيء لبلد بحجم البرازيل.

لعلمنا فلم تعد كرة القدم تلك اللعبة التي تدور رحاها حول جلد منفوخ كما يحلو لمن يرفضها ويعيبها جملة وتفصيلا أن يسميها، فقد صارت صناعة مالية فكرية بامتياز، التحضيرات الكبرى لها تترجم لنا جانبا من قدرها وقيمتها على مستوى العالم، ولعل استغلال الانتصارات فيها سياسيا هو أبرز ما يمكن أن يبين لنا قدرها ووزنها لدى صنّاع القرار من السّاسة ورجال الدول.

فكرة كأس العالم في حد ذاتها معقّدة مركّبة لا يمكن اختزالها في بعض الأحكام الجزافية السريعة، فإن كان أصحابها قد نصروها وتبوّؤوا بها مقامات عميقة وراسخة في عقول الناس وجيوبهم فلكونهم يمتلكون الذكاء اللازم والنباهة والفطنة المطلوبة لبلوغ كل تلك الأهداف والمكتسبات، بغضّ النظر عن كونها قد أعجبتنا أم لا، راقت لنا أم لا، فالقوافل من أمثال هذا النوع تسير ملوحة بأيديها أن التحقوا أو التزموا أمكنتكم لا همّ لكم سوى الكلام ولا شيء غير الكلام.

لا يمكن لعاقل أن يحاكم رياضة ممتعة مفيدة مثل كرة القدم ويرميها كلّها في سلة المهملات، فهو كمن ينفخ في الرماد، إنما هناك ما ينكر فيها، وما يحرّم لأجلها، ولا خلاف فيه، يبقى أن نستثمر نقاطها المضيئة، ونبحث في ذلك الكم الهائل من الاهتمام والتدبير في شؤونها، وكيف وصل بها أصحابها لكل تلك المكانة والهالة الإعلامية المرموقة، ولا شك بعدها أننا سنقف على الكثير مما يفيدنا كأفكار يمكن استلهامها وتفعيلها في دوائر اهتماماتنا.

الأفكار الفعّالة ليست بالضرورة صائبة صحيحة، بقدر كونها تستمد قوتها وتفرض نفسها على ضوء عدالة نواميس الكون، فسنن الله لا تحابي أحدا، ومن كان همّه العويل والنواح فلا يجني من ذلك إلا الأتعاب وخيبات الأمل.

لنتأمل بعض القيم الحضارية العميقة في حدث مثل كأس العالم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، وهذه بعض النقاط التي جمعت علّها تفتح لنا أبوابا من البحث والتعمّق أكثر.

  • حينما أرى لتلك الدقة في التنظيم في الوقت والمواعيد في بلد بحجم البرازيل، فما بين الملعب والآخر تصل المسافة لأكثر من 1000 كلم، ولكن كل الأمور سارت في وقتها، بالمقابلات وإقامات المنتخبات وحضورها للملاعب ومغادرتها بعد المباريات، هذه الاحترافية في ضبط الوقت وتفاصيل التنظيم ليست وليدة ثقافة مجتمع ودولة فقط، وإنما هي قيم منظمة اسمها فيفا FIFA  لو نظّمت الحدث في أية بقعة في العالم فستنظمه كما شاهدنا ونشاهد، فأتساءل هنا، من الأولى ليكون قدوة في هذا الموضوع؟
  • أشاهد مجموعة من اللاعبين الذين حازوا أغلب ملذات الدنيا بمقاييسنا، يلعبون فيفوزون أو يخسرون، وفي الحالتين يسارعون لتحية المنافس الذي حرمهم ربّما من ملايين الدولارات والمكافآت، فأعلم أن هناك سرّا يجعلنا نستمتع بمشاهدة تلك المباريات ونستفيد قبلها وأثناءها وحتى بعدها، فالأخلاق هناك تبيّن لنا أن فطرة الإنسان هي في أصلها قمة الأخلاق، وفي جوهرها التواضع في أبهى أشكاله مجسّدا.
  • أتأمّل فأجد منتخبات تنال اهتمام وتعاطف الجماهير بخلاف أخرى لا يلقي لها الناس بالا إلا أبناء وطنها، والأسباب كثيرة لعلّ أبرزها احترام قيم تلك الأمّة وما تقدّمه خارج أسوار اللعبة، فاليابان وألمانيا مثلا تفرض احترام مشاهديها ولو بنكهة خاصة، والكل يكنّ الاحترام اللازم لهذين الشعبين، والعكس صحيح بالنسبة لمنتخبات أخرى.
  • كم من القيم يمكن الاستفادة منها عند مشاهدة مباراة كرة قدم، فالتفكير والعمل الجماعي طريق للنجاح، وتضييع الفرص السانحة في مرمى المنافس يؤدي بالضرورة لاستقبال أهداف منه، واحترام القيم الإنسانية بإخراج الكرة في حال إصابة لاعب ولو كان منافسا، أثناء القيام بهجمة يمكن التهديف من ورائها لفتة عميقة تحتاج للكثير من التأمّل… وغيرها من الصور الممتعة التي تستدعي معاني رائعة جميلة.
  • في أحداث مثل هذه تعبّر المجتمعات والأمم عن سمعتها وتضعها في المحك بشكل عفوي، فشتان بين دولة خسر فريقها مباراة مصيرية وراح أنصارها بعد المباراة ينظف مدرّجات الملعب من مخلّفاته من النفايات الخفيفة، وأنصار منتخب آخر لا همّ له سوى التقاط الصور مع حسناوات البلد ونشرها في شبكات التواصل الاجتماعي، مع تلقينهن أسوأ العادات في جو من السخرية واللهو، علما أن المثال الثاني يمثل دولة مسلمة بخلاف المثال الأول، فأين الحق هنا؟ وكيف التفسير؟

في الأخير لا يسعني إلا أن أشيد بمشاركة منتخبنا الوطني خصوصا المدرّب الذي وضع الأمور في نصابها وقاوم في أكثر من موقف نفخ لاعبيه ومنتخبه، فلعبوا هذه المرة بروح جماعية فرضت احترام وتقدير العالم، ورغم تسليط الأضواء عليه بشكل مبالغ فيه كثيرا من شبه الصحافة في الجزائر لحاجة في نفس يعقوب، ولتغطية الكثير من العيوب والنقائص التي يغرق فيها الشعب المغلوب على أمره، فغرداية الجريحة لا زالت تئن في صمت تحت وطأة الإرهاب والإجرام ولكن لسوء حظّها فقد تزامن ألمها مع بعض أفراح الجزائر، وهكذا حلقات الدنيا تدور، فصبرا أهلي وقومي، ففرج الله قريب، والله لا يفلح الظالمين.