من تحديات إنسان هذا العصر العيش في دوامة الأحداث والمعلومات، ما إن يستفيق من خبر حادثة إلا ويصاب بأخرى، يتقلب مزاجه بين راض وساخط، بين متعاطف وناقم، بين مندفع ومتحفظ، تكبّله المسافات لفعل أي شيء، وتعيقه التزاماته للتحرك نحو أي مبادرة، يحسب أنه يملك مصير نفسه وعواطفه ولكن الأصل أنه ضحية ما يملى عليه ويزين له أو تسوّد صورته من خلال الإعلام وخط الزمن والأكثر تداولا (الترند) في شبكات التواصل الاجتماعي.

ليست هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن الموضوع، وقد سبق أن أشرت لقوة الإعلام في رمينا كقشة في مهب الريح، وعالجت يوما مسألة التضامن الإلكتروني السطحي، وكيف أن العالم يرى من زوايا نظر خاصة بالقوى المهيمنة، والإنسان المسكين ببراءته يعتقد أن الأمور تسير وفق موازين أخلاقية فاضلة، ثم يكتشف زيف كل شيء مما يدخله في حالة ذهنية قاسية من الشك واهتزاز الكثير من قناعاته.

اهتز العالم وتحرك قبل أيام بحادثة انفجار مرفأ بيروت، وتغنى بذلك السياسيون والرؤساء والملوك بشعارات التضامن مما جر وراءهم شعوبهم من خلفهم، تتالت زياراتهم، وتحركت بواخر وطائرات محمّلة بالإعانات من شتى السلع موشحة بلافتات الإغاثة وإبداء التضامن، وفي نفس الوقت هناك كوارث تقع هنا وهناك، بينما كانت المفارقة في السيول والفيضانات التي أصابت السودان، مع اختفاء تلك الأصوات المتضامنة فجأة وكأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد أزمة تافهة لا تستحق الالتفاتة.

بشكل أو بآخر نجد أنفسنا تحت رحمة وسائل الإعلام، ومواقف الدول الكبرى، يرفعون وتيرة الإنسانية ويخفضونها متى أرادوا، والمؤسف أننا ننساق وراء مواقفهم ونجري خلفهم، بمنشورات في مختلف منصات التواصل الاجتماعي، على الأقل في اللحظة الأولى، لنكتشف لاحقا إن كنا منصفين معترفين أننا ارتكبنا خطأ التمييز، وخطيئة النظر أولا لمن أصيب كي نقرر المسارعة للتضامن من عدمه.

ليس علينا أن نبذل جهدا كبيرا ولا يتطلب الأمر ذكاء خاصا حتى نكتشف ونرى ذلك التباين والتمييز في تعامل الإعلام العالمي مع القضايا الإنسانية، العالم لا تسيره المبادئ الأخلاقية ولا تحكمه أنّات الضمير، هي مصالح ومعايير وضعها من يضع المعايير وفق ما تراه نظارته التي صنعها، يوجه تركيزه بمبدأ مصباح اليد لما يشاء وفق ما يريد.

وحتى لا يصبح التضامن عندنا مجرد موضة “وبهزة” فلنحاول أن نتحرر من الانتقائية في القضايا، والمزاجية في التعاطف، وكم من قضية زائفة ورثناها دون أن ندرك معناها، وكم من قضية عادلة غفلنا عنها أو أصابنا أمامها العمى، لذلك يمكننا الخروج من ذلك المأزق بالتضامن مع المبادئ وليس المظاهر، ولنجعل معاييرنا مبادئ لا تخضع للعرق أو الدين أو الجغرافيا، وهذا اختبار دقيق وحساس لا تتاح النجاة للجميع.