أشاد الشعراء والأدباء بالأسفار قديما وحديثا، وقد درسنا وقرأنا في سير من تقدّم من العلماء كثرة أسفارهم وتنقلاتهم رغم قسوة الظروف وثقل المهمة، فضلا عن الإعجاب الظاهر أو الخفي بشخصيات التجّار الذي ضربوا في الأرض وزاروا بلدان العالم باتجاهاته بحثا عن فرص لأعمالهم ومصالحهم فتأثروا وأثروا في الأفكار والطباع، وهذا ما يجعلنا أمام علاقة خاصة بين سفر الإنسان وسعة أفقه واطلاعه، فهل السفر ضرورة لهذه الدرجة؟

ربما سنستأنس بداية بمبدأ عداوة الإنسان وتحفّظه مما يجهل كعادة فطرية لاحظها فيه علماء النفس، ونضع في اعتبار بحثنا في القضية تأثر ذلك الإنسان بمدخلات عقله وتصرفه بناء عليها في يوميات حياته مما يظهر ذلك جليّا في شخصيته وسلوكه، فتصوراته تبنى على ضوء خبرة وتجربة من سبقه ومن يعاشر، وكلما ضيّق على نفسه مصادره كلما كان أقرب للتقليد وأبعد من الإبداع.

حتى مصطلحاته ومفاهيمه سوف تأخذ شكلا وحيدا تقليديا وتبقى وفية لمنهج “من سبق” أو “من غلب”، دون أخذ لزمام المبادرة وخوض لغمار التغيير لما اعتراه التشوه أو عدم التجاوب مع المعطيات الجديدة التي يفرضها الزمن بمتغيراته، فالمحافظة لديه مقدسة بما يراه مكتسبات لا يمكن التفريط فيها تحت أي ظرف أو مسمى، وإن حدث واختار التغيير فعن انبهار ودون أسس متينة غالبا.

الأسفار تمنح فرصة اختبار الكثير من الطباع النظرية التي يتعلمها الإنسان في حياته ، فهو يصوّب ميدانيا ما وجد فيه خللا، ويبحث عن أجوبة لإشكالاته التي تعترضه في معاملاته ومواقفه بعيدا عن روتين برنامجه اليومي في حيّه وقريته، فتجربة الجديد سمة الأسفار، وللجديد ضرائب يدفعها من يطلبه لكنها في الأخير لذيذة ممتعة لمن أدرك أسرارها.

في الأسفار يصحّح الإنسان معتقداته وقناعاته عن الناس، فقد سمع عنهم كذا وكذا إما خيرا أو شرّا، سواء من وسائل الإعلام أو من قصص مرّت به، فهناك فقط سوف يضع الأمور في نصابها ويعدّل ويصوّب بناء على مشاهدات ومواقف لا عبر أذنه من القيل والقال، وقديما قيل: ليس من رأى كمن سمع.

في الأسفار يقلّ دور السند، وتزيد فرصة الاعتماد على النفس أكثر، وهذا بحد ذاته مشوار تعليمي بامتياز، السفر مدرسة في إبداع الحلول وفكّ العقد وتجاوز الأزمات، على غير ما يرسم في الأحلام كلحظات كلها أنس وزهر وعسل، ولك أن تسأل المسافر عن طرائفه، ومغامراته، فإن ضحكت فاعلم أنه قد بكى حينها وتعلّم.

الأسفار أفضل استثمار للإنسان في ذاته، وليس كلفة وترفا وسياحة لترك العقل في راحة، وقد مرّ عليّ في قصص من سبق أنّ عالِما قيل له إن فلانا ينتقدك ويعارضك في قضية معينة، فسأل: “هل سبق له وسافر؟ إن كان قد فعل فيمكنني أن أحاوره وأحاول إقناعه، وإلا فلا وقت لدي لأضيعه” قالها عن قناعة وتجربة، وهو يعلم أن تلك القضية لا يمكن استيعابها دون المرور بمدرسة السفر بكل تفاصيلها.

حتى رحلات الحج قديما كانت مدرسة منذ أول محطة فيها إلى لحظة العودة للبيت بما تستغرقه من شهور وسنوات، لذا فقياسا مع ظروف هذا العصر فلا حجة لمن يبرر عدم سفره بالموارد، فالمسألة لا تعدو كونها ضمن الأولويات أم لا، فإن كان العذر تجاوزا لإنسان لا يحمل همّ مسؤولية اجتماعية أو مهنية، فلا عذر لغيره ممن توكل له أمور الناس ويعتمد عليه المجتمع في صدارة المجالس ومقدمة الصفوف، وفاقد الشيء لا يعطيه.