بينما يرى الكثير منا إلى بعض الشخصيات الاجتماعية بعين الإعجاب والإكبار نظير نشاطها الدؤوب وحيويتها الواضحة في الميدان، إلا أني أتوجس وأتحفّظ من تلك الطريقة في التفاعل مشفقا على أصحابها ممن ينتشي بالحمل فوق الأكتاف ولو افتراضيا.

علّموني أن الفعالية تقتضي شحن القدرات الذهنية والمعرفية والعاطفية، والعطاء يستلزم التزوّد، وهذا ما يجعلني كل مرة أتساءل: متى يتعلم فلان ليعلّم؟ متى يجد وقتا للقراءة؟ متى يتسنى له الوقت لتحليل وصقل وتقييم معلوماته؟ متى… ومتى…؟

نعيش عصر التسارع المعرفي، عصر انفجرت فيه كل منابع العلم وصارت أنهارا متاحة تجري أمام الجميع، عصر الحقائق الكاذبة والشعارات الخادعة، عصر نقتنع فيه بأمر صباحا لنعود في المساء فنفنّده لنحتضن قناعة غيره، عصر لا وزن فيه لمن سلّم عقله لوسائل الإعلام تملؤه بما شاءت وتفرغه متى أرادت، عصر لا ينجو من مخالبه إلا قليلون.

هذا الوضع أنتج لنا شخصيات ترتفع سريعا وتخفت بشكل أسرع من الفقاعة، شخصيات تعمل كمنتجات السوق بمبدأ بداية ونهاية صلاحية، من أراد منهم البقاء لمدة أطول على منصة مسرح المجتمع فعليه أن يكذب ويستغبي مراهنا على ذاكرة المستهلكين القصيرة، وإلا فعليه بكثرة الاعتذار والاعتراف وهو ما يهدم كل صرح بناه وسعى فيه منذ بدايته.

العمل الميداني دون وجود فسحة للتفكير وإعادة التفكير، دون اختفاء عن الأنظار أحيانا، دون ثني الركبة للتعلم والاطلاع وتحديث المعلومات Update يصبح موضة ولو غلفه صاحبه بكل معاني الطهر والنقاء والإخلاص، خاصة مع توفر تلك الوسائل التي تغري كل شخص ببريقها إذ تعده بحياة أجمل تحت الأضواء الكاشفة في العالم الرقمي تارة وفي صدارة المجالس تارة أخرى.

التعلم والتكوين المتواصل لا يقصد به الانقطاع التام ولسنوات عن المجتمع وإن كان هذا مطلوب في مستويات معينة، إلا أن من سلبياته الابتعاد عن واقع الناس والتحليق بعيدا في سماء التنظير المثالي، لذا فالحركية مطلوبة بين الميدان ومنابع العلم الأصيلة كالكتب وحلقات العلم ولو مرة واحدة في أمسية أحد أيام الأسبوع، فالأثر لا يظهر إلا بالتراكم والعمل الجاد المتواصل وإن قلّ ورقّ خيطه، فالمطلوب ألا ينقطع.

ضيق الوقت هو المهرب الأكثر احتمالية، فعليه تعلّق الآمال في تخفيف حدة تأنيب الضمير، وهو في الحقيقة مبرر لا يرقى ليناقش لقلة حيلة أصحابه ورواده، فإيجاد فسحة من الوقت متعلق أساسا بمدى الاهتمام وتصنيف هذا الالتزام أو ذاك في دائرة الأولويات، لذا فالعمل الحقيقي يتم على مستوى التوعية بأهمية التعلم المستمر وبعدها ستظهر الأوقات من مخبئها.

قد يبرر الغارقون في وحل التنفيذ دون تفكير قراراتهم بخلو الساحة من البدائل، وبهروب الكفاءات من الميدان، وهذا في نظري ليس واقعيا، خاصة حينما نبحث في أسباب ذلك العزوف المزعوم عند المنسحبين، فالسبب حسبهم يعود للرداءة المتفشية، ولعدم وجود ما يحفزهم على الصبر والتحمل في ظل وجود بدائل أفضل وأريح وأوسع تأثيرا ونتيجة.

هذا لا يبرئ هؤلاء أيضا عندما يكون الانسحاب والاختباء تأجيلا للقيام بالواجب خاصة حينما يستلذ دور المراقب من بعيد فلا هو ساهم في تغيير ما يراه خطأ، ولا هو منح الأمان والراحة لمن يعملون معتبرا فيهم إنسانيتهم ونزوعهم للمحاولة والخطأ، وكثيرة هي الدروس التي لا تأخذ في ساحة العمل بعيدا عن الوصف والتنظير المختزل.

أثبتت التجربة الزمنية أن المسؤوليات الاجتماعية لن تسقط بسبب غياب من يحملها بقدر ما تلقى حتفها بيد من يمسكها بملقاط الرداءة، فللإنسان رغبة فطرية قوية لخدمة غيره، إن وجد البيئة المناسبة والسياق الخصب، وفي حال فقدان تلك البيئة فنادرون هم من يسعون لتأسيسها وتوفيرها، بينما يميل الكثير للبحث عن سياقات أخرى تقدر جهودهم بأقل التكاليف المعنوية والمادية.

لا أرمي بهذا –كعادتي في كتاباتي- اتهام المجتمع بمؤسساته، وإنما لكل من يرى في نفسه المعني بالفكرة أن يضع يده على صدره، ويعاهد نفسه بما يمكنه تحقيقه، فالإنسان في الأول والأخير هو المسؤول عن تفشي الظواهر وتفوق الأفكار وبزوغها أو أفولها.