“وعين الرضا عن كل عيب كليلة **** ولكن عين السخط تبدي المساويا”(*)، هو أكثر من مجرد بيت شعري يتداول هنا وهناك، وأكثر من صورة واقعية كثيرا ما تجسدت بين الناس، ربما يرقى ليكون مبدأ متجذرا، وذهنية متأصلة في نفوسنا، هو مرض خطير يفسد ما حوله وكل ما تصله شظاياه.

صورة طالما تكررت في حواراتنا ونقاشاتنا، في تصوراتنا وأحكامنا، فإن أردنا أن نعلي من قدر الشيء أو الشخص أو الفكرة وجدنا لها ما يسمو بها، وإن كنا نريد في نفس الوقت الإطاحة بها، والتقليل من شأنها فإننا لن نبذل جهدا كبيرا لنجمع ما يكفي بل وزيادة مما يحطم ويسحق.

يقال: “فلان وقع على العين العوراء لفلان”، فلا يفعل ما يسره وينال رضاه وإن قام بكل محاسن الدنيا وأتى بها على طبق من ذهب، فإنه في نظره سيء الأداء دائما، يعاني نقصا ذريعا في تدبيره للأمور، فمثل هذا الإنسان لم يلتق يوما ومعنى الإنصاف وكذا النظر للنصف الممتلئ من الكأس، لا لشيء سوى لحاجة أو أكثر في نفسه.

لست هنا أتحدث عن معاني نقرأها عند كبار الفلاسفة ومنظري العلوم الإنسانية، إنما واقع مر ينم عن نقص في الوعي بقضية الإنسان كإنسان، فهو في الأخير مجتهد، محسن تارة ومسيء في أخرى، لا نأخذ عليه أفعاله منفصلة مجزأة، إنما وجب وضعها في سياقها العام، هذا إن كان لنا الحق في الحكم والتدخل في شؤونه، وهذا يجرني للتطرق أيضا لمرض الوصاية دون وجه حق على الناس.

الوصاية تجعل منا نحكّم أنفسنا بأنفسنا في قضايا لا تهمنا لا من قريب ولا من بعيد عادة، نلعب دور القاضي فنبرئ هذا ونجرم ذلك، نستعمل فيها كثيرا عبارة “… لو كنت مكانه لفعلت كذا وكذا…” بكل ثقة في النفس وجدارة في الطرح وقوة في الإيمان بقدرات فكرية وحتى بدنية، فلنفكر في تصرفاتنا لنجدها لا تخلو من ممارسة الوصاية على ما نعلم وما لا نعلم والثانية أكبر المصائب.

تجد أمثال هؤلاء غالبا ما يتحدثون عن ما يفوقهم ماديا ومعنويا بأضعاف مضاعفة، يلومون في جزئيات من يشرف على المئات أو الآلاف أو الملايين من البشر، ولديهم ثلاثة أبناء لم يحسنوا التحكم فيهم وتربيتهم تربية طيبة، يعيبون من بيده كنوز الدنيا، وهم لم يحسنوا التصرف في ميزانية بيتهم المتكون من أربعة أفراد لا أكثر، الكلام في الفراغ أمر بسيط بل تشوبه الكثير من المتعة، لكن الميدان هو المحك والفيصل.

كثيرا ما أعمتنا احتجاجاتنا على تصرفات غيرنا والنبش في أعراضهم وأفعالهم وأفكارهم عن النظر في عيوبنا ومحاسبة ذواتنا محاسبة صارمة كما نفعل حين يكون الجاني شخص أو جهة أخرى، ماذا لو اهتم كل منا بأمره وقام بواجباته ثم طالب بحقوقه، حتى إن نقص منها شيء ففي الجنة الكمال، الدنيا دار شقاء وتعب ونصب، وكل أزمة لدينا لاشك أننا جزأ منها، وبعض الحل بأيدينا، (مثل وجودنا في زحمة سير حركة المرور وتذمرنا منها، مع أننا جزء منها، الأولى ألا نقول إننا في الزحمة، بقدر ما علينا أن نعترف أننا من صناع تلك الأزمة بوجودنا كغيرنا فيها).

كتجربة عملية، حاول أن تلقي مدخلا للموضوع في جمْعٍ ممن حولك ولنأخذ كمثال مشروعا أنجز في مدينتنا أو الدولة، لتجد غالبا التحليل لا يرقى لمناقشة الفكرة كفكرة، إنما هناك من يدافع عن الشخص ولو كان مخطئا في نقطة أو أكثر، كما أن هناك بالطبع من يرى ذلك وهما وفسادا، بل إسرافا وتبذيرا للأموال، ليتقمص دور الخبير دون خبرة تذكر، ويطرح بدائل غريبة لا يمكن أن يقتنع بها إلا هو، وكما يقال في الأوساط العامة: “فلان لن يرضى عن فلان ولو جاء إليه بيد بيضاء من الجنة!”.

المشكل والخلاف غالبا لم يكن في الأفكار بقدر ما كان في الأشخاص، والخلل يكون حينما يكون الحكم قاسيا على فكرة حسنة فعالة بمجرد أن قام بها فلان أو علان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد كثيرا من نقاشاتنا حول إنجازات الغير تنصب في التشكيك في النيات، والاتهام بما لا دليل له ولا قرينة، هي أمراض موجودة من أدنى مستويات المجتمع إلى أعلاها للأسف، هناك من يستشعرها في جانب ويغفل عنها في جوانب أخرى، ولعل التذكير أفضل وسيلة لنلتفت لما يجمع لا يفرق، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويضيف لما نتناول قيمة إيجابية ودفعة نحو الأفضل.

نعم هناك أخطاء في تصرفات غيرنا، لكنها في ذواتنا وأنفسنا هي أكثر وأعمق، ولعل إيماننا بغير هذا أول أعراض الداء، وحسن العمل لا يحدده وجود جغرافي، ولا مدد تاريخي، فالشخص أو الجهة إن عملت وأحسنت وجب علينا تقييمها بإنصاف إن طلب منا وكنا أهلا لذلك كما نقيم عمل أي جهة أخرى على وجه المعمورة، لا نحاسب الأبناء بأخطاء الآباء إن اعترفوا بها، ولا نحملهم وزر من سبقهم إن لم يتنكروا ويصروا على ما كانوا فيه، وهنا كل امرئ بما كسب رهين، هو أمر صعب لكنه ممكن.

لا نريد مادحين، ولا متربصين في المنعرجات، إنما المطلوب هو جيل من المنصفين، يحسنون الظن في جهود غيرهم، وحسن الظن أن نقدم الاحتمال السلبي على الإيجابي في أي عثرة نراها، وليس كما يخيل للبعض حينما ينفي كل احتمال سيء ليعتبر نفسه محسن للظن، فمن أحببته بيّن له عيوبه بعد تثمين إنجازاته والتركيز على الجانب المشرق منها، فما أحوجنا لمن يرفع من مستوى النقد ليكون بناء فعلا لا مجرد شعار أو وصفا يتبع موصوفه غالبا دون تجسيد حقيقي لمعناه.

المأمول من هذا الجيل أن يعيد للأمة بريقها بتوحيد جهودها، فما أحوجنا لما يجمع ويوحد لا لما يفرق ويشتت، إن كان لك قول أو فعل يسهم في الحلول العملية فلا تحتفظ به لنفسك، أما خلاف ذلك فاتق الله في عباده، هناك من يعمل وهناك من يثبط ويتصيد العثرات، فاحرص أن تكون ممن يعمل أكثر مما يتكلم، وحاول أن تسكت خصومك بفعلك لا بقولك، وتنافس بشرف من ينافسك لخيركما معا.

الكون من حولك أجمل من أن تلوثه بنظارات سوداء في كل وقت، -مع لزومها أحيانا-، كن متفائلا في موضع التفاؤل وما أكثره بل هو الأصل، وكن متشائما في مناسبات تستدعي بحق ذلك التشاؤم مؤمنا في أعماقك أنه الاستثناء الظرفي، عاملا بجد مساهما في تحسين الوضع للأفضل.

كن بلسماً إن صـــار دهرك أرقما **** وحلاوة إن صــــــار غيـــــرك علقـــمـا

إن الحياة حبــــــتك كـــلَّ كنوزها **** لا تبخلنَّ على الحيـــــاة ببعض مــــا

أحسنْ وإن لم تـــجزَ حتى بالثنا **** أيَّ الجزاء الغـيثُ يبغي إن هـــمــى؟

مَنْ ذا يكـــــــــافئُ زهـرةً فواحةً؟ **** أو من يثيبُ الـــــبلــــبل المترنـــــما؟

ياصاحِ خُذ علم المحبــــة عنهما **** إني وجدتُ الحــــــــبَّ علــما قيـــــما

لو لم تَفُحْ هذي، وهــذا ما شدا، **** عاشتْ مذممةً وعــــاش مذمـــــــما

أيقظ شعورك بالمحــــبة إن غفا **** لولا الشعور الناس كانـــوا كــــالدمى

أحبب فيغدو الكوخ قصـــــــرا نيرا **** وابغض فيمسي الكون سجنا مظلما

لا تطلبنّ محـــــــــــبةً من جاهلٍ **** المرءُ ليس يُحَبُّ حتـــــــى يُفهــــما

وارفقْ بأبناء الغبـــــــاء كأنـــــهم **** مرضى، فإنّ الجهل شــيءٌ كالعمـى

والهُ بوردِ الروضِ عــــــن أشواكه **** وانسَ العقاربَ إن رأيــــــــــت الأنجما

  • (*) الإمام الشافعي رحمه الله.
  • عنوان المقالة والقصيدة في الأخير مقتطفان من روائع الشاعر إيليا أبي ماضي:

ويرى الشوك في الورود ويعمـى **** أن يـرى فوقهـا النـدى إكليـلا.