اجتماع هذه الألوان أمام ناظري المغترب، ورؤية أمثال هذا المشهد في الأيام القليلة التي يحظى بها من العام، من أهم ما يحفز الذاكرة ويحفر في زواياها ليستنطق منظومة القيم لديه، وهوية الانتماء، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي يحظى بدفئها، ليشعر بما هو مزيج من الفخر والارتياح والخوف والارتياب..

يحدث هذا تحديدا للمغترب لأنه قد عايش ألوانا وثقافات ومجتمعات أخرى، وكلما عايشها صار أكثر تمسكا بما بين يديه، ولو شابه بعض التأثر والميل والتمثل لتلك البيئة الجديدة التي يعيش فيها، فتأثير الملح والجو له دور في اللسان والمخيال والاحتكام خصوصا إذا أطلق العنان للمقارنات والمفاضلات ومحاولة رسم معايير ذوقية جديدة غير ما ورثه من أسرته ومجتمعه..

كما يحدث ذلك أيضا للمغترب لأنه يسمع ويشاهد عبر الوسائط وحتى زواره وضيوفه من بلده ما يشير إلى أن المجتمع في انحدار، والأوضاع متردية لدرجة لا تطاق، والظروف سيئة لمستوى لا يمكن التعايش معها، إلا أنه عندما يعود لأرض وطنه يكتشف واقعا مغايرا أجمل وأفضل..

نعم قد لا يستوعب الآخر ذلك الشعور ويرى فيه نوعا من المبالغة وعدم الدقة، ألا أنه ليس من رأى كمن سمع، وهنا يصدق قول من قال من ذاق عرف، والعيش في وضع مستقر ثابت دائما بنفس النغمة والريتم والروتين يؤدي غالبا وليس دائما لتبلد الحس واعتياد النعم والمكاسب والتماهي معها حتى تصبح مألوفة لا شيء مميز فيها..

أجمل ما يمنح اللياقة والصحة لعقل الإنسان وقلبه ذكرياته الجميلة، ومناسبات الفرح العائلية، مناسبات تصدر القيم وتحكي من غير ضجيج ولا كلمات متراصة رتيبة قصة أجيال تراكمت عليها تجارب الحياة، فالفرح والحزن كلاهما دول بين الناس وديون تقضى ولحظات تستوجب تآزرا وتكافلا وتعاونا وتشاركا لتسع قلب صاحبها وتخفف عنه.

ندائي وأملي أن نتصالح مع تراثنا ومناسباتنا من مدخل الفن والإبداع في عيش اللحظة بما تقتضيها، والتقليل قدر الإمكان من حشوها بالخطب والكلمات تحت مسمى “الفوائد” أو “التذكير” بالمسارعة لمسك الميكروفون وإطلاق التحذيرات والمواعظ والمحفوظات لأوقات طويلة مملة ونبرة صوت لوامة منزعجة.. في انتظار جاهزية الوجبات..!

لم يكن الأمر هكذا سابقا.. ومن اجتهد وعبث بالإعدادات يوما ثم لم يجد جدوى لذلك، ندعوه ونرجوه على الأقل أن يعيد الأمور كما كانت، لعل هناك من يبدع أفكارا أكثر فعالية وإلا فليس التغيير دائما أمرا إيجابيا..