منذ أيام مرت علينا مناسبة اجتماعية عزيزة في مدينتي، درج الأوائل على الاحتفاء بها، وإيلائها الأهمية البالغة، ومن خلفهم بقيت ثلة من المخلصين والأوفياء على نهجهم، يحيون المناسبة كل عام، بما تحمله من قيم اجتماعية أسرية، وأبعاد إنسانية، وأسس دينية مقاصدية حكيمة، ومظاهر لا تخلو من البهجة والفرحة والذوق الراقي.

أتحدث عن مناسبة “ألّاي”، وبقدر سماعي عن أصدائها منذ صغري، وربما مشاركتي فيها ولو في مناسبات قليلة، ورغم قراءتي للكثير من القصاصات الإعلامية التي تتناولها الجرائد، أو المواقع الإلكترونية، ومؤخرا شبكات التواصل الاجتماعي، كما كنت أفعل مع الفريق أيام إشرافنا على موقع مزاب ميديا الإعلامي، إلا أني أعترف صادقا وكأني اكتشف المناسبة من جديد هذه السنة.

وفضلا عن الحنين لكل مغترب يرى لقريته “أغلان” وأمجادها وتراثها بعين الشوق والاعتزاز، تابعت حلقة للأستاذ باحمد سوفغالم، ضمن الأعمال المنشورة في قناة يوتيوب لمؤسسة الضياء مشكورة، يروي فيها بأسلوب رائع تاريخ المناسبة وأبعادها وما تحويه من قيم اجتماعية راقية لا يشعر بها سوى من عايشها وفهم مغزاها وأدرك معانيها.

المناسبة هي يوم الرحيل من الواحة إلى المدينة، حوالي بداية موسم الخريف، إذ تفضل العائلات في مزاب قضاء فصل الصيف في بساتينها وواحاتها “آعمار”، والبيوت البسيطة التي يبنونها فيها، كتغيير جذري مريح لنمط الحياة طيلة عام كامل، بعد أن يشدوا الرحال إليها بداية فصل الصيف، عندما تختتم فعاليات الموسم الدراسي، وقد كان ذلك قديما بشكل أكبر مما عليه الآن بعد توفر وسائل الراحة أكثر كالمكيفات، إلا أن الجميع متفق على أن متعة فصل الصيف بين النخيل وسقي الماء العذب مع تعطيره بالقطران، وقطف التمور والفواكه، والنوم في سطح بيوت الواحة تحت السماء الصافية والنجوم، أكبر وأجمل من أي فندق مهما زادت عدد نجومه.

كم أعتبر نفسي محظوظا بمعايشتي لزمن السكن في الواحة في صغري، بين بيت جدي رحمه الله من أبي في “بوشمجان”، وبيت جدتي رحمها الله من أمي في “بوليلة”، ولا زالت تلك الذكريات راسخة في الذهن لن تنمحي، ألجأ إليها كلما شدني الحنين للغوص في الماضي، أرويها لأبنائي وأحرص على زيارة تلك الأزقة معهم كلما تسنت لنا فرصة زيارة مدينتنا، لننعم بروائح التراب وأشجار التين والرمان والعنب متجمعة، وما أروعها من عطور.

ارتبطت المناسبات في مزاب دائما بمعاني راقية يتشارك فيها كل أطياف المجتمع كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، الذكور والإناث، ولكل منهم دوره الأساسي الذي يقوم به وفق نظام متناغم محكم، تتزين البنات بلباس العروس، ويتجول الصغار في الأحياء جمعا لنصيبهم من الحلوى والهدايا الرمزية، وكأن المناسبة عيد، بل حقا هي عيد، ولا أجمل من رؤية الابتسامة والفرحة مرسومة على شفاه البراءة، نسأل الله دوامها.

الجميل في هذه الطقوس -كما يمكن أن ترى- أنها مرتبطة كلها بالتعبد لله عز وجل، والحمد والشكر لنعمه، فنرى مجالس التلاوة الجماعية للقرآن الكريم ترنّ في المساجد والمصليات والبيوت، وفي الختمات توزع الصدقات، وتقام الولائم “انفاش” في البيوت وبين أبناء الحي (الحارة) الواحدة، تحضر فيها وجبة “يوزان” الشعبية اللذيذة، طلبا للعفو والمغافرة بين السكان، عن أي تصرف أو سلوك قد طرأ منهم تجاه الجيران مثلا، تصفية للقلوب قبل الافتراق والعودة للمدينة لبدء موسم جديد بما يسمى حديثا بالدخول الاجتماعي.

ربط الواقع بالتاريخ، والفعل الاجتماعي بالجذور الدينية، مهم جدا لتمرير القيم وإنعاش ذاكرة المجتمع بين أبنائه، حتى لا تغلب النظرة الدونية لما لم يفهم مقصده، ولا يتسرع من حاز نصف العلم لتنحية المناسبات وتبديعها والقرار بعدم جدواها بجرة قلم وقلة أو سوء اطلاع، وحتى لا تحرف النوايا عن مساراتها، ولا يُنسى من ترك آثارا عظيمة في المجتمع كالشيخ حمو والحاج الذي يرتبط اسمه كثيرا بهذه المناسبة، وهذا دور الأولياء في توعية الأبناء بإرث المجتمع وحضارته، ودور المدارس في تعزيز الهوية والثقة في الذات في مناهجها ودروسها.

أحيي جهود كل قائم على هذه المناسبة في قصر “تغردايت” خصوصا، وعلى الواحة -رغم زحف العمران وكآبة منظر الوادي حاليا- وعلى التراث المادي واللامادي أفراد ومؤسسات ومبادرات، من خلال المحافظة على إقامة المناسبة، ومن خلال التأريخ لها، والتأليف، والفن بطبوعه، والقصة والرواية، وللمساجد كذلك دورها الكبير في تقديم محتوى متكامل يجمع بين الحس المدني والجذوز الاجتماعية والمقاصد الدينية، لتنشئة جيل يفتخر بما يملك ولا يستبدل الذي هو أدنى بالذي خير، وإن فاته أن يعيش تلك المناسبات كما أسست، فليس عليه أن يضيع لذة الاطلاع عليها والبحث فيها، ولم لا إحياءها من جديد.

صورة المقالة للمبدع: سلمان ملال