في خبر محزن صادم لمحبي الأشياء العريقة، وذكريات الزمن الجميل، أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية BBC عن أفول نجم صوتها العربي من لندن بعد 84 عاما من الخدمة، لأسباب مالية خيمت عليها جراء الأزمة التي طالت العالم وأوروبا وبريطانيا بشكل أخص، فضلا عن أسباب أخرى تم الإعلان عنها متعلقة بالتحول الرقمي لجمهور الإذاعة ووجود بدائل أكثر تأثيرا وأقل تكلفة، وهذه سنة الحياة في التغيير.

هكذا تودع بريطانيا زمنا وصفحة من التاريخ بعد أيام قليلة من وفاة الملكة إليزابيث الثانية عن عمر ناهر 96 عاما، بعد سبعين سنة من الحكم، وقد عايشت الكثير من الأحداث العالمية مثلها مثل إذاعة بي بي سي العربية، التي أطلقت في 3 جانفي من عام 1938م، لتصبحا مجرد ذكريات وأحداث تروى للأجيال كما سبقهما من صفحات التاريخ حلوها ومرها.

قرار إطفاء ميكروفون البي بي سي، وإغلاق الإذاعة جرّ معه جملة من التبعات الصعبة والتداعيات القاسية، منها إلغاء 382 وظيفة، وهم الذين كانوا يشتغلون في إذاعات بي بي سي بـ10 لغات، من بينها العربية والفارسية والصينية والبنغالية، في محاولة لتوفير مبالغ سنوية ضخمة قدرت بملايين الجنيهات الإسترلينية.

لم تكن إذاعة BBC إذاعة بريطانية فحسب، ولكن امتدادها وصيتها شاع العالم، حتى حظيت بثقة أجيال طيلة ثمانية عقود، رافقتهم في خدمة إعلامية وحيدة حينها، وصفها الكثير بالمدرسة، وآخرون اعتبروا مادتها الإعلامية عادلة ونزيهة، إلا أنها حقيقة لم تخل من الأجندات والتوجيه نحو أفكار معينة، وقد بنت بشكل ناعم ذكي وعيا لا يستهان به في مخيالهم وزينت لهم ما أرادت، وقبّحت في نظرهم ما شاءت، بنخبة من المذيعين والإعلاميين الذين نالوا شهرة عالمية واسعة النطاق بقوة أدائهم، وجمال صوتهم، وفصاحتهم الرائعة.

كانت دقات “بيغ بن” عبر الأثير موعدا مقدسا، عند جيل ممن يضبط منبه ساعته يوميا على أخبار وبرامج إذاعة بي بي سي عربية الجادة والترفيهية، خاصة عند سماع “هنا لندن” حتى أضحت أيقونة ومسكوكة لغوية تعني الشروع في تقديم خبر رسمي، أو معلومة دقيقة، وهذا قبل ظهور الشاشات وغزوها المنازل باللونين الأبيض والأسود ثم الألوان، إلى عصر الفضائيات ثم الهاتف المحمول، وما تلا ذلك من أجيال الإعلام وأصنافه ولا تزال.

مع موجة التغيير في العالم والتحول من العصر إلى عصر، ومن آليات إلى أخرى، أصبحنا في كل مرة نفقد أشياء رافقتنا زمنا طويلا ولم نعهد الحياة دونها، إلا أنه مجرد شعور عابر سرعان ما ينسى مع حضور الجديد وفرض نفسه في يومياتنا، كما حدث مع الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا زال العالم يفاجئنا كل مرة بالجديد والحديث، مع مقاومة لا تخفى من الكبار ومن نشأوا على نمط حياة معين كان يسوده تقدم وئيد بطيء للتكنولوجيا، ثم حدث الانفجار المعرفي وثورة التقنية وانفلت عقد الاختراعات والوسائل والأفكار اليوم.