تطور علم التسويق كثيرا واندمج اندماجا واضحا وتماهى في سلوك الإنسان وقراءة رغباته العقلية والقلبية، ثم توجيهه نحو الوجهة المراد له أن يعجب أو يفضل وفي الأخير يقرر الشراء والاستهلاك تحت غطاء الحاجة، ولعل العصر الحديث وثورة التسويق والإشهار الرقمي صارا أكثر جرأة وصراحة وفصاحة مما كان سابقا نوعا ما متخفيا متنكرا يتم تقديمه باستحياء.
شركات مثل آبل وشاومي وسامسونج وغيرها من عمالقة التقنية اليوم، أدركوا خيوط اللعبة جيدا وأتقنوا مداخلها ومخارجها، حتى أصبحت منتجاتهم حلما لفئات معتبرة من المستهلكين حول العالم، بسبب تلك الهالة التي يصبغون بها مناسبة إطلاق أي منتج قبل وأثناء وبعد الإطلاق، وهذا ما لم أسلم منه أنا أيضا فقد شعرت حقا بمحاصرة إعلاناتهم لي في كل مكان أكون فيه هنا في سلطنة عمان، وحتى في إعلانات منصات التواصل الاجتماعي، حيث لا معنى لمكان العيش جغرافيا كما كان سابقا، إلى أن بدأ الشك يسري عندي، وتحدثني نفسي وتبرر لي عن رداءة هاتفي، وضرورة تغييره في أقرب فرصة.
قبل أيام أطلقت أيفون منتجها في جيله 14، بنسخته العادية والـ Pro وبعض الملحقات، وكان الحدث عالميا بالطوابير الطويلة، خاصة في المراكز التجارية الحديثة، والعد التنازلي وانتظار صدوره باشتياق غريب، واحتساب تكلفته مقارنة بمداخيل الشعوب، وكم يتطلب من الوقت لشرائه، وهكذا ضبطت إيقاعات العالم حول الأيفون 14، واعتبر مرجعا ومركزا ومحورا، وحتى مؤشرا لرفاهية حامله وشقاء من افتقده ولم تتسن له الفرصة لامتلاكه، وبلغ الأمر أن يعزي الناس بعضهم بعضا تهكما، وصمموا لأجله الكثير من مقاطع الفيديو الكوميدية، وكأنها لحظات استثنائية خارج السياق، أنست العالم شيئا من الرعب الذي يعيشه جراء الأزمات والحروب المشتعلة والتي تكاد أو تنتظر.
شخصيا وكصاحب قناة يوتيوب وحساب إنستغرام، مما يطلق عليه اسم صناعة المحتوى، دائم البحث عن تطوير أدائي في التقديم وإنتاج حلقاتي بما يرقى لتطلعات المتابعين المهتمين، كلما قمت بالبحث في هذا الإطار انهالت النصائح بضرورة التوجه إلى آبل وامتلاك أيفون إن أردت صورة أفضل وأكثر دقة، وكأن العالم تآمر عليّ واتفق على أن يفرض عليّ قرار استهلاك منتجات التفاحة المقضومة، وهو ما وجدته كذلك عند الأصدقاء من نصح وتوجيه نحو تلك الأجهزة حصرا إذا أردت التفوق والارتقاء بأدائي تقنيا نحو مستوى أعلى.
دائما ما أتساءل، هل استطاع الخبراء في تلك الشركات أن يحركوا العالم ويفرضوا حالة طوارئ كلما أنتجوا الجديد، وبلغوا من القوة والتأثير إلى أن يستولوا حقا على قرار الاستهلاك، ويصلوا إلى درجة متقدمة من تطوير المنتجات بحد ذاتها، وتطوير تجربة المستخدمين لها، وتطوير علاقة عهد ووفاء حميمية معقدة بينهما، سواء من خلال التصميم المبدع، والألوان المدروسة بدقة، حيث لم يكتفوا باستهداف الموارد المالية للمستهلكين فقط، بل دفعوا بهم إلى الاقتراض واللجوء إلى حلول الشراء بالأقساط ورهن جزء هام من رواتبهم وممتلكاتهم، وهم يفعلون ذلك بكل فخر واعتداد وقناعة.
لازال موضوع الاستهلاك، وترتيب الأولويات في امتلاك الأشياء التي تشكل الوسائل لا الغاية بحد ذاتها، والقفز من إصدار إلى آخر، وانتظار الجديد لاقتنائه مهما كان الثمن، والتضحية بأمور على حساب أخرى، والوقوف لساعات في الطوابير الطويلة، والمسارعة لتسجيل الانطباعات والمراجعات للمنتجات الجديدة، تمثل لغزا وجملة أسرار بين من يتعامل معها بوعي ويتقوت ويسترزق من كل ذلك، ويتخذها فرصة استثمار لتحقيق أرباح مادية معتبرة، وبين من يسقط في فخ الاستهلاك لأجل الاستهلاك فقط، ليصبح لقمة سائغة تحت تصرف الأذكياء ودهاة التجارة والتسويق.