أرسل لي أحد المهتمين مشكورا يعاتبني بلطف مستنكرا فكرة معينة في مقالتي السابقة، وأخبرني كيف أنه أعجب كثيرا بمقدمة الموضوع وتلك الإشارات التي وردت فيه إلى أن وصل لنقطة أثارت استفزازه -حسب قوله- وأدرك حينها أني لم أتغير في توجيه اتهاماتي واستغلال الفرصة كل مرة للقدح فيما يراه أمرا مقدسا عنده، وأكثر من ذلك تأسف كثيرا لكوني أمنح فرصة ذهبية لمن يعتبرهم دعاة التحرر بتبني أفكارهم، وما أسهل إلصاق التهم والتصنيفات الجاهزة..

صديقنا يرى كل نقد موجه لمرتادي المنابر هو نقد للمنبر نفسه، وكل ملاحظة لمن اختاروا مهمة الوعظ هو إنقاص من قيمة الوعظ نفسه، وهكذا وبتعميم القاعدة يصبح الحديث عن المتدين حديثا عن الدين، رغم أن الفكرة فكرة ومن يتبناها أو تتجسد فيه يبقى إنسانا قد يصيب وقد يخطئ، وصدق المفكر الحكيم مالك بن نبي حين قال: حينما تتجسد الفكرة يبزغ الصنم.

الوعاظ المخلصون أنفسهم يعترفون بوجود تخمة في الخطابة والخطب، ويقولونها بملء فيهم أننا كنا أفضل حالا سابقا حينما كان منطق العمل يسود ويفوق منطق الكلام، وإذا كانت وفرة الوسائل في زمننا نعمة فإن النقمة في تحول الآيات والأحاديث والحكم واللطائف مجرد خلفية صوتية، ومجرد جرعة هرمونية للشعور بنشوة أداء الواجب..

لي صديق عزيز أوكلت له مهمة إدارة إحدى المساجد وبرمجة دروس الوعظ فيها والتواصل مع الوعاظ والأساتذة المحاضرين -وهي مهمة ثقيلة- في معناها وقيمتها تستدعي مهارة وحكمة بالغة خاصة في التعامل مع المتسلقين للمنابر والاحتماء تحت قدسيتها وقدسية الكلام المحفوظ الذي يلوكونه وينطقونه وهم بالذات من يعتبرون أي مساس بهم هو مساس بالذات الإلهية!

في حوار مع صديقي ذات يوم أخبرني كيف أنه في حيرة من أمره بعدم الوصول لهدف ملء جدول الدروس الشهري، وكيف أنه يتعنى كثيرا في التواصل مع الكفاءات، بينما هاتفه وهاتف المكتب لا يكاد يتوقف من الرنين ممن يعرضون خدماتهم ويلحون في الطلب كي يجدوا لأسمائهم مكانة في الجدول، لكن تعوزهم الجودة ويخونهم التوفيق كل مرة أتيحت لهم فيها الفرصة!

قلت لصديقي من الذي قال أو قرر أنه يجب أن يكون هناك درس وعظ جديد يومي في المسجد بين المغرب والعشاء؟ ومنذ متى بدأ ذلك عندنا؟ أليست هناك مكتبة ثرية من الدروس يمكن عرضها؟ أو ترك فسحة للمصلين للتمتع بهدوء المسجد دون أن يفرض عليهم السماع؟ أو اعتماد حلقات علم تفاعلية عوض الإلقاء والتلقين.. أخبرني أن كل هذه الآراء جميلة ورائعة ومثالية وهناك محاولات إلا أن متسلقي المنابر لا يستسيغون وجود فراغ في قائمة الدروس وقد أخبرهم أن القائمة ممتلئة ولا توجد فسحة لهم!

لا أنكر جهود القائمين على المساجد والمنابر ومناسبات الأفراح والأحزان، واعتبارها فرصتهم لمخاطبة الجمهور خاصة مع منافسة شرسة من مدخلات شبكات التواصل الاجتماعي كما يقولون، إلا أني وشفقة عليهم أقدم نصحي وإن اعتبرها البعض سهاما فالفكرة تواجه بالفكرة ومن سارع لاتهام النوايا فقد أعلن إفلاسه في النقاش.

شخصيا وبكل صدق أتحفظ كثيرا من تصدر المجالس ممن هب ودب، والكلام بنظرة استعلائية وفي أي موضوع دون مراعاة المناسبة ولا المستمعين، وكم من قاعة حوت كفاءات وشخصيات راقية ساقها تواضعها وسمو أخلاقها والعرفان لصاحب المناسبة، ثم يأتي من يفسد ذلك المشهد بمداخلة رديئة أقل ما يقال عنها أنها تغريد خارج السرب كي لا أصفها بوصف آخر!