منذ زيارتي الأولى إلى سلطنة عمان، وحتى قبل أن أفكر في الاستقرار فيها، كانت مدينة نزوى محطة أكيدة، ينصحني بها الجميع هنا، وحتى في زيارة أحبابي وضيوفي حاليا، وفي كل مرة أكتشف فيها ما يدل حقا على قيمتها التاريخية العالية لدى العمانيين، ولا أخفيكم أني حاولت الكتابة عنها مرارا لكن لست أدري ما الذي أجّل الأمر إلى هذه اللحظة.
تبعد عن العاصمة مسقط حوالي 150كم في طريق مزدوجة، هي من بين أجمل المدن العمانية والأكثر شهرة، هي قبلة السياحة إن كان الموضوع سياحيا، ومركز التاريخ إن كان المجال تاريخيا، ومنارة علمية قدمت لسلطنة عمان الكثير من العلماء والشخصيات التي أثرت المشهد العماني علميا وثقافيا، كما تمتاز بالحفاظ على الكثير من جماليات الماضي كسوق الجمعة، وشهرة أهلها بالتجارة يمارسونها بمهارة واقتدار.
من يزور نزوى يتنفس عبق التاريخ، ويلمس في كل شبر من حاراتها القديمة نسمة من الماضي الجميل، ابتداء من القلعة العتيدة في مركز المدينة، وسوقها المرتب الأنيق بتخصصاته، التوابل والبهارات، الحلوى العمانية والتمور والعسل والقهوة العمانية، الخضر والفواكه، اللحوم والأسماك، التحف والهدايا، سوق تغمرك في ثناياه ضيافة العمانيين وكرمهم، تذوق الحلوى العمانية بأنواعها الفاخرة، وترتشف القهوة، وفي كل حوار فوائد ودرر، ودعوات صادقة لتشريفهم في منازلهم كضيف عزيز.
جميل ذلك الانسجام بين المباني القديمة والحديثة، خصوصا تلك المبادرات التي بدأت بسيطة وامتدت لتصبح ثقافة سياحية في أرقى مستويات الضيافة، أتحدث عن تحويل البيوت القديمة في حارة العقر مثلا إلى فنادق ونزل تراثية جميلة، تستقطب الكثير من الأوروبيين أساسا، والسياح من مختلف الجنسيات، رغم غلاء أسعار الغرف، إلا أن الأماكن محجوزة بشهور مسبقا، خصوصا والجو بدأ في الاعتدال في سلطنة عمان منذ منتصف شهر سبتمبر تقريبا، ونزوى عموما تتميز بجوها اللطيف الجاف نوعا ما مقارنة بمسقط.
الجدير بالذكر أن الاهتمام بإعادة تأهيل الحارات القديمة قد ازدادت وتيرته مؤخرا فقط، وزادت الحاجة لذلك في فترة وباء كورونا عندما انتعشت السياحة الداخلية والتفت العمانيين لأنفسهم واكتشفوا كنوزا كانت بين أيديهم، وهم يستغلونها الآن أحسن استغلال، مع توصية الخبراء بالحفاظ على اللمسة الفنية التراثية للحارات، وعدم الانجرار نحو البناء الحديث دون دراسة والتأثير سلبا على الهوية الفنية على المعمار والحضارة التي كانت هناك لقرون من الزمن.
زيارة نزوى تأخذنا إلى مناطق مجاورة لها لا تقل شهرة وجمالا وجذبا كفلج دارس، ومسفاة العبريين بنخيلها وأشجار الموز فيها، وبركة الموز، والجبل الأخضر وموسم الرمان وجو البحر الأبيض المتوسط، وبهلاء وقلعتها الشامخة الجميلة، وجبل هاط وجوه العليل، وكهف الهوتة، ووادي تنوف.. وغيرها من المزارات الجميلة، وفي لقاءاتي مع زائريها شهادتهم عنها مشتركة، ووصفهم واحد، هو الإعجاب والإحساس بالألفة والأمان وشيء لطيف يلامس الفطرة وشغاف القلب.
في كل زياراتي السابقة إلى مدينة نزوى كانت الرغبة تزداد للاستقرار فيها، كمدينة هادئة تراثية إنسانية تشبه لحد كبير ما اعتدت عليه وألفته في الصبا، والإنسان مهما سافر وزار وساح وهام، إلا أن قربه من الأرض أريح وأجمل له، وبين الواحات والنخيل ومنازل الطوب والصاروج نجد فطرتنا ونكتشف ذواتنا، ونحظى بالسلام والطمأنينة.
الاهتمام بالمدن والحواضر التاريخية، والحفاظ على التراث المادي واللامادي، مسؤولية ضرورية وتكليف حضاري على عاتق أهله، هي أمانة تتناقل بين الأجيال، كمرآة للمجتمع، وصورة صادقة لكل إنسان مرّ من تلك المنطقة وعمّر وساهم في صناعة التاريخ، ومهما غزت المباني الزجاجية الفارهة، والأضواء الليلية الساطعة، إلا أن الأصل يبقى أصل، ولا يدرك قيمة الأشياء إلا من فقدها.