قبل أيام مر عليّ منشور في إحدى منصات التواصل الاجتماعي، كاتبه مجهول إلا أن هناك من كفاه مؤونة نشره وسارع في ذلك داعيا إلى توزيعه على أكبر نطاق، تماشيا مع الموضة والبدعة السيئة في العالم الافتراضي، وفي الرسالة دعوة لمباركة “شخصية” برزت مؤخرا بشيء من الفصاحة والخشوع والحجة في الحديث والإلقاء، وأكثر من ذلك الدفاع عنه وبيعته وبذل الطاعة له إلى درجة الفداء والافتداء.

طبعا كان السياق موجة من أمواج التراشق والتناطح الاجتماعي، حول قضية حان دورها لتطفو للسطح وتأخذ نصيبها من النقاش والجدال والوعيد، يدعي كل طرف فيها غيرته على المجتمع، وحفاظه على الدين، والنفس، وكل ما من شأنه أن يصنف ضمن المقاصد العليا والدنيا.

ولتحقيق شيء من الانتصارات والفتوحات، كان لزاما على الطرف الأكثر ضجيجا، الأقل عملا، البحث عن قائد المعركة وزعيمها وتنصيبه ليكون درعا مقدسا يعتبر المساس به إعلانا للحرب، وأية حرب؟ مجرد غبار إلكتروني لا يتعدى الشاشات ولا يتجاوزها، بينما المخلصون في الميدان يجتهدون ويسددون ويقاربون رغم الرياح المعاكسة والنيران الصديقة.

من علامات التأسيس للطغيان ربط الفكرة بالشخص، وتعليقها به وتجسيدها فيه، وهذا ما يؤسس لمفاهيم الولاء والعداء لها بذهنية عمياء متطرفة، وهي نفسها فكرة “الزعيم” في السياسة عندما يرتبط اسم ما بالوطن، فيصبح هو الوطن والوطن هو، وأي مساس به يعتبر مساسا بالوطن، وأي نقد له يعتبر نقدا للوطن، وأي انزعاج منه يعتبر انزعاجا من الوطن.

يحدث ذلك أيضا في الدين، فيصبح الشيخ هو الدين، والداعية هو الدين، والإمام هو الدين، والجغرافيا هي الدين، وأي موقف لهم هو موقف الدين، وأي تغريدة أو عواء أو حتى نباح، يرمى به الدين وهو منه براء، وما أكثر الكتابات التي تجسد الفكرة، وتمجد الأشخاص، وتصنع الأصنام، وهي بذلك تفسد أكثر مما تصلح، ولكن أصحابها في غمرة صياحهم لا ينتبهون إلى ما دمروه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

التجرد أسمى درجات الوعي والفهم، بدونه يدخل صاحبها متاهات اهتزاز النموذج الفكري، يفقد بذلك سلامه الداخلي واتزانه في كل موقف تتعرى فيه الحقائق، ويطلع على كواليس قد غابت عنه سابقا، وكما تعلمنا وعشنا ورأينا أنه كلما تجسدت الفكرة في شخص ما.. انهدمت.. وأفلت.. وزاغت.. وانحرفت.. وانتفت.. من مخيال صاحبها -ولو بعد حين- ليرمى في مواجهة أمواج هائجة من التيه والحيرة وخوض رحلة البحث عن الذات لكن بتكاليف باهضة!