الثقة من أهم ما تكسب به الحكومات ودّ ورضا شعوبها، فما إن يحسّ المواطن بتلك العلاقة القوية بينه وبين حكامه، حتى يخلص ولاءه لهم ولوطنه، ويعمل من أجل التطوير والتقدّم ما وجد إلى ذلك سبيلا، ولكن ماذا يقع حين يكون العكس، ويعيش في بيئة صعبة المراس مقلوبة المعايير؟
فعندنا في الجزائر -للأسف- انتشرت عادة أو عقيدة راسخة بكون المشاريع التي تطلق هنا وهناك ماهي سوى محاولات ارتجالية تبقى حبرا على ورق، أو كانت كردة فعل عن تشنّج أو احتجاج وقع أو سيكون هنا أو هناك، دون أي تخطيط أو دراسة تذكر.
إلا أنني من باب الإنصاف يمكن أن أقول إن قناعتي تغيّرت قليلا مؤخرا، حين لمست حقيقة تجسيد مشاريع على أرض الواقع، رغم كونها بأيدي وعقول غيرنا، لكن لا يهم إذا كانت بجودة واحترافية، لأنك إن وجدت مشروعا تقوم به مؤسسة وطنية، تيقّن أن مصيره التوقف في أية لحظة، وإن تمّ فبشق الأنفس دون الحديث عن الرداءة والاحتيال في استعمال الآليات والإمكانات.
أما هناك في قطر، فالمنشآت آخذة في التطور والنمو بشكل ملحوظ جدا، الدقّة والإتقان يميّزانها، وكذا الإبداع مع المحافظة على أصالة المنطقة وعراقتها، فهذا أمر لا يتلاعب فيه الخليجيون عامة، المارّ على مشروع معين تجده متفائلا به، متأكّدا من تدشينه في آجاله المحددة، لا لشيء سوى لكون خزائن أمواله محفوظة دون ثقوب ولا حنفيّات سريّة.
في كل مجال تجد السباق مع الزمن لإتمام مشاريع معيّنة، ففي الجانب الرياضي نجد عام 2022م هو المتحكّم في الوضع، والكل يبني لذلك اليوم، ليس لاحتضان بطولة تستمر لشهر ثم ينصرف كل إلى بلده، بل ستبقى تلك البنية التحتية في خدمة سكّان قطر، طيلة حياتهم فيها، فتنظيم كأس العالم وسيلة وليست غاية، وسيلة لتوفير كل ما بشأنه يريح المقيم هناك، ويجعل لقطر مكانة بين الكبار، وإن اختلفنا معها في بعض الجزئيات إلا أن الجانب الأغلب إيجابي ومشروع.
أما في مجال التعليم، فتخصيص مدينة بأكملها لهذا الغرض باسم: “المدينة التعليمية” تحت إشراف مؤسسة قطر Qatar Foundation أمر يدعو للفخر والتوقف كثيرا، فقد أولى أصحاب القرار هناك الأهمية القصوى لهذا المجال الحساس جدا، ووفروا إمكانات خرافية للطالب والمعلّم وكل ممارس للتربية والتعليم، في جو محترم ملتزم، من الطور التحضيري إلى الجامعي بمنشآت محترفة المظهر، قوية المناهج والبرامج، ولم يكتفوا عند هذا الحد، بل يجرون حاليا توسعات شاسعة على المدينة، ويعدون بالكثير في المستقبل القريب.
في مجال السكن، هناك أيضا تفكير سديد، بدراسة المنطقة وما تستلزم، ثم البناء على ضوء الدراسات دون تحوير ولا تزوير، والويل لمن يفكّر في ذلك الأمر، لأن مصيره سيكون صعبا جدا وضعه لا يحسد عليه أبدا، ولو سرنا هنا على نفس النهج لحققنا المعجزات، ولكنا في ريادة التجارب الناجحة، لكن إلى متى نبقى نحلم ثم نصدم بالواقع المرير؟
في قطر هذه الأعوام فرصة كبيرة لتوظيف الطاقات والكفاءات، فكما قلت في مقالة سابقة، لا يهم هناك لونك ولا عرقك ولا لغتك، وإنما عقلك وخبرتك وأداؤك وفوق كل ذلك أخلاقك هي المعايير، وكم من جزائري كفء هناك لم يكن ليختار الغربة ويفضّلها على العيش في وطنه ووسط أحبابه لولا ما قاساه من ألوان التمييز والتصنيف إلى التهميش، فحزم حقائبه إلى من يعرف قدره جيدا.
أنصح كل من ملّ طرْق الأبواب هنا بالبحث عن فرص هناك، وليكن زاده خبرته وحسن أخلاقه، فلست ممن يذر الرماد في العيون، هناك العيش أفضل ماديا ومعنويا، وفرص الإبداع أكثر، وكذا إمكانية التطور أسرع، إلا لأمثالي ممن هو قد شقّ طريقا يعتبره لحد الآن سببا في بقائه في أرض الوطن العزيز علينا.
أما عن قضية خدمة الوطن واتهام البعض أحيانا بالتهرب وتفضيل المصلحة الشخصية فهذه قصة لا أقتنع بها أبدا، لأن خدمة الوطن ليست بالضرورة من داخل الحدود الجغرافية، بل لكل مجهوداته المحترمة، بل هناك الكثير ممن لا نعلمهم يقدّمون خدمات جليلة للجزائر من خارجها لا يفعلها من هو هنا، فلتكن العلاقة علاقة تكامل لا إقصاء، فسمتك الحسن وسمعتك الجيدة في غير بلادك هي أكبر خدمة تقدّمها لوطنك، كما أن عكس ذلك يعتبر هدما وتخريبا لبلدك وشعبها جميعا.
على الهامش: يستسمحني من يجد في كتاباتي قسوة على واقعنا هنا، وهذا راجع ليقيني بعدم تقدّمنا خطوة إذا نافقنا وجاملنا أنفسنا، ولم نعترف بأخطائنا، فالاعتراف بالنقص ومحاولة معالجته أولى خطوات التحرّك نحو الأفضل.
Comments (3)
صدقت ، فقطر التي مساحتها من مساحة بدلية من بلدات هذا الوطن اصبحت رائدة بفضل
احترام الكل للعمل و عدم وجود مسربين و حنفيات سرية كما قلت ، لك كامل الحق في
القسوة لعلنا نتعلم من غيرنا ، اجمل ما يعجبني في اهل الخليج هو عملهم للمتقبل البعيد
و ليس القريب ، فلو ترى عندنا مشروع خماسي و يا ليته بخدم الخمس سنوات القادمة
بل يا ربي يخدم عام و او عامين ، اما عندهم 2022 و لين لعام 2022 بل لما بعده بقرن ربما
سلمت يداك ، بانتظار التتمة من المواضيع اكيد في جعبتك الكثير ، سلامي لك اخي جابر
أخي جابر: صحيح ما قلته عن الأبواب المغلقة هنا و المشاريع التي “تستطيع التوقف في أي لحظة” (كما تقول الحملة من أجل الوقاية من حوادث الطرق)و عن إهمال القدرات و الخبرات و الأفكار…. كل هذا صحيح… و نتمنى أن يتغير هذا مع الزمن إن شاء الله…
و مع هذا تبقى قطر البلد “المكروسكوبي” جغرافيا مقارنة مع الجزائر أسهل للتسيير و التطوير أليس كذلك؟ خاصة إذا و جدت الأموال… و “المستثمرين”…
مقال جميل أخي جابر يحس القاريء بحقيقة ما فيه خاصة من عاش مثل ما رأيت أنت بين هنا وهناك.. أما عن قطر بلد ميكروسكوبي يسهل فيها التسيير والتطوير فالجزائر يمكن ان تكون 48 بلدا ميكروسكوبيا بوجود مال أكثر وأكثر ومستشمرين من كل أقطار العالم زد على ذلك الموقع الإستراتيجي والمساحة الشاسعة الخصبة وحتى صحرائها الكبير النافع.. أن تكون لك مساحة بقدر الجزائر بكل تنوعها ما تحت أرضها وما عليها لا عذر من شيء ينقص… تخيل لو سكن الياباني مساحة مثل الجزائر!!!