تجري فعاليات المونديال هذه الأيام في قطر، وهي مناسبة رياضية تقام كل أربع سنوات، تجذب إليها أنظار العالم من شرقه إلى غربه، من شماله إلى جنوبه، الجميع يضبط مواعيده على إيقاع المباريات حسب درجة أهميتها وقوة طرفيها، كما لا يخلو الحدث من السياسة وصراع الأفكار وتدافعها في مستويات عليا لا ينتبه إليها إلا من تأملها بدقة وتركيز، سأحاول في هذه السلسلة من المقالات أن أكتب الكثير عن المونديال، عن ما قرأت، وشاهدت، وعشت، نقاط أثارت انتباهي، وأسئلة انقدحت في ذهني.

لعل الجديد في مونديال قطر هذه المرة، أن الحديث والجدل لم يرتكزا كثيرا على البلدان المشاركة، ولا على النجوم الجديدة ولا حتى التي هي على مشارف الاعتزال ونهاية المشوار، بل لم يكن على كرة القدم فقط، بقدر ما كان على دولة قطر نفسها، حيث نجدها دائما في بؤرة التركيز شكرا واعترافا أو حقدا وتحاملا، ولعلها أول مرة يخطف فيها البلد المنظم الأضواء مقارنة بالنجوم والفرق ومجريات المقابلات كما عهدنا سابقا في مثل هذه المناسبات.

قطر وبحنكة أهلها ومن يقودها صارت محط الأنظار ومثار الجدل بين من شكك ولا زال في قدرتها على تنظيم حدث كبير بحجم كأس العالم، ومن تآمر وتحامل عليها حقدا وحسدا كونها دويلة صغيرة لا يحق لها التقدم ولا القفز على دول عريقة كان لها السبق والريادة وراثيا دائما في هذا المجال، ومؤخرا زادت حدة الهجمات لأسباب متعلقة بإمدادات الطاقة والغاز خصوصا، وكذا وقوفها ضد رغبات الغرب القذرة ومحاولة تمرير رسائلهم من خلال “شارات” وشعارات يجبر اللاعبون على حملها، ولسان حالهم يقول من أنتم حتى تجرؤوا على رفض أوامرنا والوقوف في طريقنا.

لا يسع المقام هنا طبعا للحديث كذلك عن الذين ينتظرون هذه المناسبات كعادتهم ليعرضوا شعاراتهم الساذجة في استنكارها ووصف مجرياتها باللهو واللغو، بينما لم يقدروا على مقاومة إغراء المتابعة ومشاهدة أدق التفاصيل التي تغيب حتى على المشجعين، فبينما العالم يشاهد جماليات كرة القدم وفنون اللعب الجماعي، نجدهم يحرصون على مراقبة ظهور ركب اللاعبين وأفخادهم، يلتقطون التفاهات الجانبية فقط ليشبعوا نهمهم ويحققوا نزواتهم في إثبات أن ما يحدث هناك هو مجرد إعلان حرب على دينهم أو بالأحرى تدينهم.

قطر وكما سبق وكتبت سابقا عدة مقالات عنها حين إعلان فوزها بشرف التنظيم، وإطلاق أحلامها بتلك المنشآت الضخمة الإبداعية ثم أثناء التحضيرات من خلال زياراتي لها أو عبورا نحو وجهات أخرى، ثم قبل عام حين كان من حظي حضور بعض من فعاليات كأس العرب فيها قبل حوالي عام من اليوم، وقد توج منتخبنا الجزائري حينها باللقب، ثم قبل أيام حظيت بزيارة قصيرة ذقت فيها أجواء المونديال، كل هذا جعلني أمام ظاهرة تستحق الإشادة والإكبار والتقدير، لعلي أحاول ترجمة بعضا من أفكاري وما يدور في ذهني من خلال الكلمات في هذه السلسلة.

في حقيقة الأمر أجدني في موقف محير بماذا أبدأ وكيف أشرح وماهي المنهجية التي تناسب هذا المقام؟ حتى لا تكون مجرد كتابات مكررة، ولا تأخذ شكل المقالة الصحفية المستهلكة، حتى لا أطيل ولا يكون وصفي مملا، ومن جهة أخرى لا يكون الإيجاز مخلا، مع أني معترف من البداية بأني لن أكون موضوعيا، فهل أبدأ بالحديث عن التحضيرات؟، عن الأجواء في المطار والاستقبال الفاخر؟، هل أكتب عن الفعاليات المصاحبة؟، عن الملاعب وما جاورها؟، عن البنية التحتية القوية؟، عن الأداء الإعلامي والتسويقي الخرافي؟، عن التقاء العالم هناك والمواقف والطرائف في الشوارع والمترو والحافلات؟، عن برنامج التطوع؟، عن التسهيلات؟، عن دقة الاهتمام بالتفاصيل؟ وغيرها.. من المحاور التي سأحاول تناولها في قادم المقالات إن شاء الله.

قطر غيرت الكثير من المفاهيم في القيادة والإدارة والتخطيط والتسويق وإدارة الأزمات، وأسست لعهد جديد، لها وللمنطقة عموما، دونت اسمها في قائمة التفوق والريادة بكل جدارة واقتدار، هي تتحدث لغة راقية عالية المستوى والأداء، عيبها أنها لغة غير مفهومة لصنف كبير من الناس، البعض منهم سيمضي وقتا طويلا لربما سوف يفهم، وبعضهم لن يبلغوا تلك الدرجة إلا إن حاولوا، كلما في الأمر أن كأس العالم ستنتهي أيامها القليلة، وتبقى قطر بصمة واضحة في سجل التاريخ.

يتبع..