رغم الأصداء الجميلة من قطر، ومظاهر الاحتفال في كل زاوية وركن في الدوحة، إلا أن الآلة الإعلامية في دول عدة حاولت وتحاول التشويش على الحدث بإطلاق دعوات المقاطعة، وانجر من ورائها حتى بعض من لم يستسغ ما قامت به قطر من إبهار واحترافية في أدائها، وفي هذا يصدق القول: ليس من رأى كمن سمع، وبين من سمع ومن قرأ ومن رأى، وبين من تابع الموضوع بتفاصيله من سنوات ومن استيقظ فجأة على صافرة بداية المونديال، تختلف زوايا النظر وطرق التحليل وبالتالي النتائج والخلاصات.

عندما أعلنت الفيفا فوز قطر بشرف تنظيم المونديال قبل أكثر من عقد من الزمن، رغم منافسة ملفات ثقيلة من الدول المصنفة ضمن الصدارة العالمية في أغلب معايير ومؤشرات التقييم، كانت الثقة حينها مهزوزة، وتساءل الكثير حول جدوى تنظيم حدث كهذا في منطقة الخليج، ومن دولة مجهرية مثل قطر، وشككوا في قدرتها على تنفيذ خططها الطموحة، وتحويل تلك الأحلام المرسومة على الورق والمعروضة في الشاشات إلى مشاريع ملموسة مشيدة، سرى هذا الشك إلى أشد الناس تفاؤلا ودعما كذلك، خصوصا في مراحل معينة مثل فترة الحصار قبل حوالي خمس سنوات، وفي بدايات العام واندلاع حرب روسيا وأوكرانيا.

كلما اقترب الحدث تعالت أصوات من هنا وهناك ظاهرها الحيرة والحرص على حقوق الإنسان والعمال، وباطنها النيل من قطر والسعي لإثبات عدم قدرتها على الوفاء بوعودها، ومن جهة أخرى نرى أصواتا يصبغها أصحابها بثوب التدين ينددون بتبذير تلك الأموال على كرة القدم، يرون كل ذلك ضلالا ولغوا، يتداولون أرقاما خرافية تنفقها قطر على الملاعب، ولم يبخلوا عليها باقتراحاتهم الذكية، بإنفاق تلك الأموال على الفقراء والمساكين، وبين هؤلاء وهؤلاء وأصناف أخرى من المنتقدين، شقّت قطر طريقها يثبات وجلد وحِلم نحو بلوغ مواعيدها بنسبة إنجاز كاملة.

عندما حانت لحظة الحقيقة، وانطلق المونديال، اكتشف العالم وجها مغايرا لدولة مغمورة في الخليج العربي، وجه كسرت به الكثير من الصور النمطية الراسخة، اكتشف المشجعون بلدا مختلفا تماما عما سمعوه وشاهدوه في وسائل إعلام بلدانهم، وجدوا أجواء رائعة آمنة لم يحلموا بها حتى في أرقى مدن العالم، الجميع يروي ما رأى من الأمن وقوة التنظيم، من كرم الضيافة وحسن المعاملة، من وجود خدمات “مجانية” على غير المألوف عندهم، عن التعايش بين الشعوب دون تمييز أبيض على أسود، ولا غربي على شرقي، صور مثالية لم يكن ليصدقها من يسمع عنها، لولا ما يبث وينشر بكل عفوية على شبكات التواصل الاجتماعي، بعيدا عن الإملاءات وقيود خط التحرير ومقص الرقابة.

قطر أعادت للإنسان توازنه وفطرته، لما فرضت منطقها وقوانينها على من يزورها، ورفضت الركوع والانقياد للأفكار السامة التي أراد الغرب نفثها من خلال كرة القدم، وأثبتت أنها في مستوى التفاعل مع حدث عالمي كالمونديال مع الحفاظ قدر الإمكان على القيم والعادات، دون غلو جامد، ولا تنازل مبتذل، ولا أصعب في الحياة من مسارات الموازنة والتكييف واعتبار المقاصد وذكاء التعامل مع السياق، بينما الضعف في الاستسلام والانسحاب، وفي طلب المثالية غباء وسذاجة، إلا أن ما يخيفني هو حجم الانتقام الذي سيحدث في المونديال القادم في أمريكا وكندا والمكسيك، والذي أتوقع أن ينحدر فيه المنظمون إلى أسفل سافلين كردة فعل بقدر مدى رقي قطر وسموها.

قطر أثبتت أن كرة القدم والمونديال ليسا حكرا على المشجعين المخمورين، والمشجعات العاريات، أمسكت بزمام الانضباط بحزم، ولم تستثن من ذلك أحدا، بهذا كان الجو مناسبا للعائلات للاستمتاع بأجواء المونديال سواء المباريات أو الفعاليات المرافقة لها، وهذا بشهادة من كان بالأمس يتهجم ويطالب بمقاطعة المونديال، وقد رأينا في تويتر مثلا كيف تساءلت الكثير من المشجعات، ذوات جمعيات حقوق المرأة، عن غياب حالات التحرش بهن وهن في الملعب، على غير ما كن يعانين في الملاعب الأوروبية.

استطاعت قطر في شهر واحد قلب الكثير من الموازين، وتصحيح العديد من المفاهيم، وهذا ما يسمى بالقوة الناعمة، وهو ما يعتبر عائدا مجزيا على الاستثمار الذي قامت به طيلة السنوات الماضية، هي لم تنفق تلك المليارات لكأس العالم فقط، بل قامت بقفزة نوعية في سلم التقدم في بضع سنين، وكان المونديال مجرد حافز وسبب، ولا أفضل من علو الهمة وسمو الحواجز وضغط المواعيد لتحقيق الإضافة في الحياة.

قطر تعلمنا دروسا كثيرة في مفاهيم الاستدامة والتعامل مع المنشآت كإرث للأجيال، بعضها سيفكك كليا بعد المونديال ويهدى لبعض الدول الصديقة والمناطق النامية، وبعضها ستجرى فيها تعديلات تقنية وفنية لتؤدي مهاما غير ما كانت تؤديه في كأس العالم، وستبقى للمواطن القطري ولكل مقيم فيها وزائر تلك البنية التحتية الفخمة، والمنشآت الفنية الإبداعية تحت تصرفه، يتمتع بخدماتها ويستفيد منها، هي نتيجة التعامل مع الخبراء والكفاءات العالمية في نمو البلد وازدهاره، ولا ضير في ذلك، مادام الغرب الذي نتغنى به أول مستفيد من تلك الكفاءات من شتى أنحاء العالم، ولولاها ما بلغ تلك المراتب.