في الحلقات السابقة عن مونديال قطر، وحتى غيرها من المواضيع، دائما ما كنت أراهن على ذكاء القارئ في قراءة ما بين السطور، وهو ما كان في أغلب ما شاهدت من التعليقات والمناقشات وما ورد إليّ من ردود الفعل، إلا أن هناك فئة قليلة دائما ما تتسرع في إطلاق الأحكام والانزلاق في وحل السطحية، والمؤسف أنه لا علاج لهم سوى التجاهل لمن يستحق، والحظر لمن تطاول، شفقة عليهم من انكشاف جهلهم، وتجاوزا لأي توتر أو شدّ يعكر صفو المتعة وحجم الإلهام الذي نعيشه في الحياة.
في سياق المونديال وما حققته قطر، قرأت عددا معتبرا من المقالات بين من يمدحها ويشكرها، ومن يذمها وينتقدها، بعض الأقلام كانت راقية ممتعة ولو جاء المحتوى أحيانا مختلفا والأفكار معارضة، وفي الأمر متسع من الاختلاف في وجهات النظر نظرا لتباين التصور للموضوع، وفهم خلفيات ومنطلقات الكتّاب يجعلنا في موضع أقرب للإنصاف والفهم، إلا أن المستغرب هي الأقلام المأجورة، والأدهى منها المتطوعة للدفاع عن أفكار “الغالب” تجاه “المغلوب” بأسلوب وضيع وتحامل واضح يدل على جرعات مركزة من الحقد والحسد بعيدا عن أية موضوعية أو مبادئ.
لو نأتي لشكر قطر حول ما فعلته طيلة السنوات الماضية إلى آخر لحظة من ختام فعاليات كأس العالم سنجمع مجلدات من القواعد والآليات والدروس والوصفات والخطط القابلة للتنفيذ، وكفى بها شرفا أن رفعت المنافسة من الأقدام فقط كما عهدنا، إلى العقول والأفهام، نافست في أرقى مواصفات التنظيم ودقة العمل على تفاصيل لا ينتبه إليها إلا صنف نادر جدا من المتخصصين، جمعت العالم في أرضها وفرضت عليه بكل نعومة قيمها ومبادئها، حتى صار الحديث عن غياب أحداث للعنف، أو أية تجاوزات أمنية محل انبهار واستغراب من العدو والصديق، وتجاوز الأمر إلى اصطياد العثرات وتتبع العورات بحثا عن مسكنات للألم ولو مؤقتا.
يمكن تقييم التجربة خلال مدة المونديال فقط، وهي مدة قصيرة جدا في الحقيقة تخفي وراءها جهودا قامت بها الدولة طيلة عقد من الزمن على كل المستويات، لذا يعتبر الحدث نتيجة وترجمة لتلك المساعي، وإن رأيت قمة الجبل بادية في سطح البحر، فاعلم أن الجزء الحقيقي هو ما لم تره، وغالبا ما تكمن الحقيقة فيما لا يظهر في الواجهة، والأذكياء الحكماء هم الذين لا يكتفون بما يظهر للجميع، وإنما ينفذون للأعماق، ويسعون لاكتشاف ما لا يرى بالعين المجردة، وفي نموذج قطر وتنظيم كأس العالم يمكن القول إن ما خفي أجمل ويستحق التقدير والاحترام.
لا ينكر منصف أن نسخة كأس العالم هذه المرة ليست مثل ما سبق منها، الكثير من انتقد كرة القدم ووصفها -وراثة- بالجلد المنفوخ صار يسترق المتابعة ولو من خلف الستار، ومن كان يراها مجرد لعبة بدأ يفهم أنها ليست كذلك، ومن اعتبرها مضيعة للوقت سرى إليه الشك أن الأمر في حقيقته قد يبدو غير ذلك، وفي تغير هذه المفاهيم يمكن أن نقف قليلا لنكتشف أن العمل على حدث المونديال ليس بسيطا، إنما هي علوم دقيقة وتفاصيل معقدة من التسويق والإدارة والاقتصاد والإعلام والموارد البشرية وعلم النفس وعلم الاجتماع وفنون الإتيكيت السياسية والعلاقات العامة، حتى تسير تلك الملايين من الجماهير وتحارب فيهم بعض الأفكار وتحاول أن تغرس غيرها مما تؤمن به وتعتقده.
قطر خاطبت عقول الناس وقلوبهم، عيونهم وآذانهم، من خلال هوية بصرية احترافية عمل عليها فريق عالمي طيلة خمس سنوات متواصلة، وعندما تشاهد طفلك الصغير ذو الثلاث سنوات يغني بلحن يشبه النسخة الأصلية أغنية “إرحبوا” فاعلم أن الأمور بلغت درجة متقدمة من الاحترافية عند من صمم تلك المواد التسويقية، والمتجول في أرجاء دولة قطر يدرك ذلك الحضور القوي للملصقات والمعلقات في كل أحيائها وشوارعها، مما يقدم صورة جمالية للمدينة وتغذية بصرية ملهمة ستبقى راسخة في ذهن من رآها في يقظته وحتى منامه.
كان يوم الختام مسكا ومتعة بنهائي مثير وسيناريو غريب ومجنون، بأداء ومستوى خرافي في مباراة جمعت بين الظاهرة ميسي والموهبة الصاعدة مبابي ابتداء، ثم يأتي بقية اللاعبين والمدربين بدرجة ثانية، مقابلة توجت فيها الأرجنتين بلقبها العالمي الثالث وانكسرت شوكة فرنسا الانتهازية المكابرة، مباراة شهدت حضور زعماء عدة دول، يتقدمهم بكل فخر الأمير الشاب تميم مرتديا شارة “هيّا” في كل المقابلات التي حضرها كرسالة مشفرة لكل مسؤول يرى نفسه فوق القانون لمجرد تقلّده لمنصب صغير.
طويت في قطر صفحة أجمل نسخة مونديال في التاريخ، وكسبت بذلك الاحترام والتقدير، أهين من أهين من أصحاب الأفكار الشاذة، وكرم من كرم ممن حمل قضية عادلة مشروعة، بدأت حقبة جديدة تغيرت فيها مفاهيم التأثير في العالم، فماذا بعد أن لفتت قطر الأنظار إلى منطقة الخليج؟ وغيرت الكثير من المفاهيم والصور النمطية حول الدول العربية والمسلمين، حتى أدى ذلك للكثير من الجماهير التي وفدت بمناسبة المونديال للتفكير في الاستقرار هناك، نعم اختتمت فعاليات المونديال، إلا أن قطر لا شك ستواصل مسيرة الإنجاز والإبهار.
أسدل الستار هناك، وبدأت الآن مرحلة البحث عن الحقيقة.. عن إجابات مقنعة للأسئلة الكثيرة التي راودت الجماهير والمشاهدين من أنحاء العالم..