زيارة العواصم أو العيش فيها لا يمنحنا تلك الصورة الحقيقية للدول والشعوب، بما أن نمط الحياة اليومية فيها غالبا ما يتسم بالإيقاع السريع، والبعد المهني الوظيفي، العلاقات تعاقدية، والمعاملات حذرة، تحت ضغط التكاليف والالتزامات المادية، رغم وسائل الرفاهية ومحاولة تيسير ظروف الحياة بتوفير بنية تحتية عصرية قد تمنح الراحة الجسدية مؤقتا، لكنها لا تحقق الأمان النفسي، بينما نجد الوضع مغايرا في المدن والقرى الداخلية، حيث الأجواء العائلية والدفء الاجتماعي.
عشت هذا الشعور في وطني الجزائر، وعايشته كذلك في سلطنة عمان، وكم أغبط أصدقائي العمانيين حينما يغادرون في إجازات آخر الأسبوع العاصمة مسقط نحو قراهم أو -البلد- مثلما يفضلون تسميتها، وهي رحلة أسبوعية مؤكدة لا يتخلفون عنها إلا لعذر قاهر، وقد كنت أتساءل عن ذلك الإلحاح منهم لمرافقتهم وقبول دعوة الضيافة منهم في بيوتهم ومجالسهم ومزارعهم مشكورين، إلى أن زرت بعضا منها وزالت الحيرة، وإذا عرف السبب زال العجب.
هذه المرة كانت المناسبة عزيزة مع رفقة عزيزة، إلى مدينة سناو العريقة -وتنطق تارة بسكون السين وبالكسر عند بعضهم- وهي ولاية تقع في محافظة شمال الشرقية، تبعد عن مسقط بـ 180كم أي حوالي ساعتين من الزمن بالسيارة، تتميز بكرم أهلها وحبهم للعلم والعلماء، وتشتهر بمدرسة العالم المربي الشيخ حمود بن حميد الصوافي الذي يحج إليه طلبة العلم وعامة الناس من أنحاء العالم لينهلوا من مجالسه أو يستفتوه أو يطلبوا مشورته، وهو من نسل ثلة من العلماء، ينتسب إليهم رحما وروحا.
ندوة أعلام من حاضرة سناو في نسختها الثانية من تنظيم المركز الثقافي الأهلي في المدينة، وهو حدث علمي يعنى بالاحتفاء وإبراز جهود وسير ثلة من العلماء في محاضرات ومداخلات امتدت ليومين في أربع جلسات علمية، نشطها أساتذة ودكاترة من عدة مناطق في سلطنة عمان، ومن الجزائر (د. مصطفى باجو)، ومن تونس على رأسهم د. فرحات الجعبيري، وكذا من مصر، على أن تطبع الأوراق البحثية لاحقا وتصدر في كتاب يكون مرجعا للمهتمين، ومناعة للأجيال لتنشئهم على قيم الآباء ومآثرهم وهمّتهم.
رافقت الندوة عدة فعاليات للضيوف بجولات في الحارات القديمة (كالصواوفة والبراشد والمحاريق) والتعرف على تاريخها، وزيارة المكتبات الوقفية وما تحويه من كنوز معرفية توفر للباحثين جوا علميا خصبا للتفرغ والتأليف والتحقيق، ونحسبها عند الله من الصدقات الجارية والعلم المنتفع به، كما كانت الفرصة سانحة لنحظى بلقاءات دسمة في وجباتها وحواراتها مزجت عفوية العمانيين ورقي أخلاقهم وسمو ذوقهم الأدبي، لحظات أعادت لي ذكريات أيام خلت في مزاب حينما كنا طلبة في مجالس الضيوف والعلماء.
تعرف مدينة سناو أيضا بمكانة أهلها في التجارة وتميزهم فيها، ويشتهر فيها “سوق الخميس” ووقوعها في منطقة التقاء بين عدة مدن أخرى مما يرشحها لتكون ذات صيت أكبر وقدرات أفضل بتوفر البنية التحتية دون تهديد لتراثها أو تحوير لهويتها العلمية الثقافية، وهو من التحديات التي تعيشها الكثير من مدن العالم حينما ينشد أهلها تنمية اقتصادية مادية، ولكن على حساب أمور أخرى كانت تعتبر عندها من المكاسب والمزايا.
كل عبارات الشكر لا تفي قدر أهل سناو وحفاوة استقبالهم ورقي تواضعهم، وكرم ضيافتهم لنا، وهم من صدق فيهم قول الشاعر:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل